النبطية الفوقا: الذكرى الـ18 لمجزرة آل العابد

حدث ذلك صباح يوم الخميس في الثامن عشر من شهر نيسان قبل ثمانية عشر عاماً في بلدة النبطية الفوقا، وقبل ثماني ساعات من وقوع مجزرة قانا، عندما آثرت عائلة المواطن حسن العابد التي كانت تسكن في «حي العقيدة» الذي يشرف عليه موقعا الاحتلال الإسرائيلي في تلتي الدبشة وعلي الطاهر أن تتشبث بأرضها رافضة حياة التشرد والتهجير، بعد توالي الإنذارات التي كانت تبثها وسائل الإعلام الإسرائيلية وعملاؤها طالبة فيها وجوب إخلاء المواطنين الآمنين من منازلهم تحت طائلة التهديد والوعيد بتعرضهم لأقصى الاعتداءات.

اطمأنت العائلة إلى مخبئها الآمن في الطبقة الأرضية لمنزل جارها علي جواد ملي الذي هجر الحي وتركه لها، في الوقت الذي كان فيه رب العائلة حسن العابد قد توجه إلى بيروت قبل حصول المجزرة بثلاثة أيام مزمعاً التوجه إلى مكة المكرمة لتأدية فريضة الحج، لكنه لأسباب معينة تأخر عن السفر إلى اليوم الذي حصلت فيه.

قبل ذلك كانت عائلة العابد قد عاشت أيام الأسبوع الأول من حرب «عناقيد الغضب» الاسرائيلية بلياليها لحظة بلحظة مع الرصاص والقذائف وهدير الطائرات الحربية، وبينما كانت تستعد لاستقبال يوم جديد من أيام الحقد الاسرائيلي، والطفلة الرضيع نور إبنة الأربعة أيام تتهيأ لليوم الخامس من عمرها، إذ بطائرات الغدر الصهيونية تشن غارة مفاجئة على المنزل الذي اختبأت فيه العائلة وتمزقه بصواريخها، وتجعل أجساد ثمانية من أفرادها وصهرها أشلاء تناثرت بين ركام المنزل، لتؤلف رواية مجزرة سيقرأها كل طفل وامرأة عن معنى السلام الاسرائيلي الذي شيّد على جثث الأبرياء من المواطنين الآمنين، ولا سيما الأطفال والنساء منهم.

لم ينج من أفراد العائلة سوى ابراهيم (18 سنة) وشقيقته نجود العابد (19 سنة) في ذلك الوقت، وقد حشرهما ركام المنزل بين كتل الإسمنت، حيث راحا يصرخان طلباً للنجدة والرحمة إلى أن أغمي عليهما من شدة الخوف والإرهاق، واستمرا على هذه الحال إلى أن تم سحبهما من بين الأنقاذ بعد مرور فترة من الوقت، ولم يستفيقا إلا في مستشفى النبطية الحكومي، وقد أصيبا بجروح ورضوض مختلفة.

والذين استشهدوا من أفراد العائلة هم: الأم فوزية خواجة (43 سنة) والأبناء: علي (10 سنة)، محمد (12 سنة)، هدى (9 سنوات)، ندى (7 سنوات)، مرتضى (4 سنوات)، لولو (16 سنة) والرضيعة نور (4 أيام)، أما الشهيد التاسع فكان صهر العائلة أحمد خليل بصل (23 سنة) وخطيب الناجية نجود.

أما الوالد حسن العابد فبينما كان يستعد لركوب الطائرة في مطار بيروت متوجهاً إلى مكة المكرمة لآداء فريضة الحج، سمع بنبأ الغارة الإسرائيلية على النبطية الفوقا من خلال الراديو، فلم يصدق ما سمعت أذناه بادئ الأمر، عندئذ سارع إلى العودة وهو يهيم على وجهه، وصل إلى البرادات في صيدا وكشف عن بقايا الوجوه والأجساد والأشلاء، عفّر وجهه بدماء الشهداء من أبنائه، سأل عنهم فرداً فرداً، قائلاً: يا رب كنت متوجهاً إليك، فإذا بزوجتي وأولادي يسبقونني إليك.

اليوم وفي مناسبة الذكرى الثامنة عشر لحصول مجزرة آل العابد في النبطية الفوقا يؤثر رب العائلة حسن العابد عدم الخوض في تفاصيلها التي حلت بزوجته وأبنائه، لما تثيره في نفسه من جروح وآلام وأحزان لا يقوى على استعادتها وتكرارها، وقد عبر عن انزعاجه لما يتعرض له مع حلول هذه المناسبة في كل عام من ضغوط نفسية وعصبية، أثناء المقابلات واللقاءات التي تجريها وسائل الإعلام معه ومع نجله ابراهيم حول هذه الذكرى، متمنياً لو كان باستطاعتهما رفضها والتهرب منها، لا سيما وأنهما يعيشان ذكرى المجزرة كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة، ولن تندمل آثارها في نفسيهما ما داما على قيد الحياة.
والذي يحز في نفس العابد ويفاقم من حزنه وآلامه اعتقاده بذهاب أرواح أبنائه وزوجته سدى، وأن تضحياتهم لم تأتِ على مستوى النتائج التي تحققت على الصعيد الوطني منذ حصول المجزرة وحتى الآن، بعدما كان يتمنى أن تكون دماءهم سفحت فداءً لقيامة لبنان الموحد بجميع طوائفه ومذاهبه ومختلف أطيافه السياسية، غير أن ما حدث منذ استشهادهم وحتى الآن جاء منافياً لكل ما له علاقة باللحمة والوحدة والانصهار الوطني، ليحل محل ذلك الإمعان في تكريس الطائفية والمذهبية والمزيد من التفرقة والشرذمة والانقسام، ما خلا أمراً مضيئاً واحداً تمثل بدحر الاحتلال الاسرائيلي من الجنوب والبقاع الغربي، جراء مقاومة وصمود وتضحيات أبناء الجنوب.

ويؤكد ابن حسن العابد ابراهيم البالغ من العمر الآن (37 عاماً)، والذي نجا مع شقيقته نجود من المجزرة بأعجوبة على رغبة والده عدم التطرق إلى تفاصيل المجزرة، مشيراً إلى أنه ما زال حتى الآن يعاني من رواسبها وآثارها السلبية، لا سيما على الصعيدين الصحي والنفسي، وهو يتلقى علاجاً دائماً لآلامه وأوجاعه، كذلك شقيقته نجود إثر محاصرتهما بين كتل الإسمنت الذي انهار عليهما في ذلك اليوم المشؤوم.

وأصبح ابراهيم أباً منذ عشر سنوات، ورزق حتى الآن بابنتين الأولى أسماها دعاء (10 سنوات) والثانية أسماها رنين (8 سنوات).

ويعمل العابد منذ صغره في تلحيم وحدادة الآلات والجرارات الزراعية، وقد ورث هذه المهنة عن والده الذي تخلى عنها بعيد حدوث المجزرة، ويعاني ابراهيم من هذه المهنة في الوقت الحالي نظراً لصعوبتها وبسبب إصابته المرضية.
أما عن شقيقته نجود التي ناهز عمرها (39 عاماً) فقد تزوجت بعيد حصول المجزرة من إبن البلدة خـــضر غندور، بـــعدما استشهد خطيبها السابق، وقد سافرت مع زوجها سنوات عديدة إلى دولة تشيلي في أميركا اللاتينية حيث كان يعمل، لكنهما عادا إلى لبنان منذ فترة من الوقت، حيث يدير غندور محلاً لبيع المواد التموينية والاستهلاكية، كان يعمل به عمه والد نجود قبل أن يتخلى عنه بسبب المرض في الوقت الحالي.

السابق
بالفيديو: عنصر من فرع المعلومات يضرب رجلاً وسط الشارع
التالي
قوى 14 اذار امام تحديات جديدة