عمليات تبييض الأموال وتقنياتها الإحتيالية

آل كابوني الذائع الصيت ليس فقط لوغو مافيا القرن بل أيضاً أول مرتكبي عمليات تبييض الأموال بحيث سُجن لمدى الحياة في الولايات المتحدة الأميركية لإقدامه على تبييض الأموال بدافع التهرّب من دفع الضرائب. وليس أقل منه صيتاً رئيس “بَنَمَا” المخلوع نورييغا الذي سمح لعصابات المخدرات الدولية في كولومبيا باستخدام “بنما” كمحطة ترانزيت لتجارة المخدرات مقابل إيداع مبالغ مالية طائلة في البنوك لإجراء عملية الغسيل لها لاسيما بنك الاعتماد والتجارة الدولية في ولاية فلوريدا الأميركية الذي ساهم في إيداع أموال المخدرات المنقولة من كولومبيا إلى أميركا، بتحويل أموالها مجدداً إلى كولومبيا بصورة قانونية بواسطة فروعه المتعددة، مما أدّى في النهاية إلى انهيار البنك تماماً.

 تتوارد إلى مسامعنا كل يوم أخبار عن شركات “الأوف شور” التي يُهمس سراً عنها بأنها تتعاطى عمليات تبييض الأموال وبأنَّ محلات تجارية فخمة مثل “أ.” و “ش.” ليست إلاّ واجهة برّاقة تُخفي وراءها عمليات غسيل لأموال غير مشروعة ولكن!

 يبقى السؤال عالقاً في أذهان الكثيرين: ما هي هذه التقنية الخارقة التي يستوجب لإكتشافها نظام مصرفي يَقِظْ إلى أقصى الحدود مرتبط بأجهزة رقابة متشعّبة تبدأ بأجهزة الضابطة العدلية مروراً بهيئات التفتيش الإدارية وصولاً إلى الجسم القضائي ضمن منظومة قانونية مرنة من أجل مواكبة عمليات التبييض المستحدثة في العالم؟

نعرض الرواية الكاملة التي نبدؤها بِمَثل تطبيقي عن عملية تبييض أموال جِد بدائية.

 تعتبر تجارة الأعضاء البشرية بين الأطباء في مصر شائعة جداً. لإخفاء الأموال غير المشروعة التي يتقاضاها هؤلاء الأطباء نتيجة هذه التجارة، يعمدون إلى افتتاح متاجر لبيع الأنتيكات والتحف في المناطق الراقية ويقومون بشرائها من الأفراد “دون فواتير” ويتم تسجيلها بمبلغ أقل من قيمتها. بعد ذلك يتم بيعها (غالباً بيع وهمي أيضاً) بمبلغ أكبر بكثير جداً من قيمة الشراء ويدفع عنه الضرائب القانونية ليكمل الصورة الشكّلية وتسجيل فرق السعر بالملايين التي هي بالأساس نتيجة عملية لزراعة أعضاء بشرية.

وإذا كانت عملية تبييض أموال بسيطة على صعيد محلي يجني فيها الأطباء ملايين الجينيهات (العملة المتداولة في مصر) فإن حجم الأموال المغسولة سنوياً لا يقلّ عن 5% من إجمالي الناتج العالمي و8% من حجم التجارة الدولية أي ما يقارب 3,5 تريليونات دولار سنوياً إذ تحتل هذه الصناعة المرتبة الثالثة عالمياً من حيث الحجم بعد تداول العملات وصناعة السيارات.

بكل بساطة ، تُعتبر عملية تبييض الأموال إحدى أخطر وأبرز أنواع الجريمة المنظّمة ، فهي لا تهدّد القطاع المصرفي وحسب بل أيضاً تمسّ أمن الدولة وأمن المواطن على حدٍ سواء. وقد عرّف قانون مكافحة تبييض الأموال اللبناني الرقم 318/2001 هذا الجرم بكونه “كل عمل يقصد منه إخفاء المصدر الحقيقي للأموال غير المشروعة أو إعطاء تبرير كاذب لهذا المصدر بأي وسيلة ٍكانت …” والجدير ذكره أن لبنان كان قبل إصدار القانون المنوّه عنه جسر عبور للأموال غير المشروعة بحيث وضع “ضمن الدول غير المتعاونة” من قبل مجموعة العمل المالي لمكافحة تبييض الأموال “غافي” ما حدا به بداية إلى إصدار القانون رقم 318/2001 الذي أوجد لجنة التحقيق الخاصة المعنية بالكشف عن عمليات تبييض الأموال وحَصَر بها رفع السرّية المصرفية ضمن شروط معينة حين تكون الشبهة مؤكّدة على أن تجري الهيئة تحقيقاً ميدانياً قبل اتخاذ القرار برفع السرية. وبعد أحداث ايلول 2011 أقِرّت تعديلات على القانون رقم 318/2001 أهمها تسهيل الملاحقات القضائية وزيادة فعاليتها وتحديد الحد الأدنى لمتطلبات “اعرف عميلك” لدى المؤسسات المصرفية خصوصاً فيما يتعلّق بالعملاء الذين فتحوا حسابات مصرفية قبل إصدار القانون.

بالإضافة إلى ذلك قامت اللجنة الخاصة بوضع برنامج متطوّر يُدعى “نظام إبلاغ المعلومات عن بُعد” يتيح التبادل السريع للمعلومات بين مختلف الهيئات المعنية ما أدّى إلى ارتفاع عدد التقارير عن العمليات المشبوهة المرفوعة إلى هيئة التحقيق الخاصة من قبل الشرطة والجمارك. وعَمَد المصرف المركزي إلى ابتكار إجراءات للحدّ من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب عبر إنشاء دائرة إمتثال للقانون الضريبي الأميركي نظراً إلى أن النظام اللبناني والعربي يمرّ عبر الولايات المتحدة الأميركية، الامر الذي ساهم في خروج لبنان بفترة قياسية من اللائحة السوداء وقد أثنى مؤخراً المسؤولون في “غافي” خلال زيارتهم إلى لبنان مؤكّدين أنه يرقى إلى مستوى أفضل الأجهزة الحكومية في العالم!

 أما عن التقنيات المستعملة من أجل تبييض الأموال فهذه أبرزها: كشف أحد كبار المسؤولين في المصرف المركزي الكولومبي أنه في سنة 1991 أدخل إلى كولومبيا 900 مليون دولار عبر القطاع السياحي علماً أن المداخيل الناتجة عن هذا القطاع لا تتجاوز الـ300مليون دولار. كما أن الكثير من الشركات التجارية تقوم بهذا العمل مثل: “شركات الدمى” و “الشركات الورقية” و”شركات الأوف شور” التي يعمد المبيّضون إلى تمرير عملياتهم عبرها ، خاصة أنها تتعامل مع مؤسسات مصرفية (موجودة في سويسرا واللوكسومبورغ وموناكو والنمسا وتشيكيا وإسرائيل) تقوم بعمليات دولية لا علاقة لها بالسوق المحلي ما يجعلها خارج إطار الرقابة .

وتُعتبر فضيحة موج MOGE وهي شركة بترول وطنية في بورمانيا أشهر مثال على التبييض عبر الشركات إذ كانت منذ العام 1988 تبيّض الأموال الناتجة عن تجارة الهيرويين الذي يتم صناعته وتصديره تحت رعاية عمداء الجيش البورماني. بالإضافة إلى العديد من التقنيات الأخرى أبرزها التجارة بالنساء والأطفال وإدارة بيوت الدعارة والملاهي، وتشير التقارير أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تتجه أعداد كبيرة من الفتيات القادمة من أوروبا الشرقية إلى “اسرائيل” لممارسة الدعارة تحت غَطاء معاهد التدليك، وتقنية أخرى هي التهرّب من دفع الضريبة عن طريق الغشّ في الميزانية ومحاولة تزوير القيود والتدوينات الحسابية، والحصة الكبرى ترتبط بالفساد السياسي الذي يقترن باستغلال النفوذ وهذه الجريمة منتشرة كثيراً في”إسرائيل” ومثال على ذلك الحاخام ارييه درعي زعيم حزب شاس الديني المقرّب من نتانياهو، الذي حُكم بالسجن 4 سنوات بسبب الاختلاس وإساءة الأمانة… ولتقنيات تبييض الأموال طرق عديدة تبدأ بالتحويلات المالية من المغتربين، أندية القمار، التجارة البحرية، اللجوء إلى وكالات السفر، استعمال بطاقات الائتمان، المضاربة البورصية، اللجوء إلى مكاتب السمسرة والوساطة ، الحوالات البريدية، إنشاء المؤسسات الإصلاحية والتعليمية والخدمات الاجتماعية والمرضية، ولا تنتهي بتبييض الأموال عبر الإنترنت…

 وأخيراً السؤال الأهم ما هو سبب تنامي هذه الآفة حول العالم؟ إنه الفساد الذي بحسب تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة الدولية يَهْدُر وحده لبنان أكثر من مليار دولار سنوياً لتفشّي ظاهرة الفساد فيه والتي تشكّل الطبقة السياسية “حقلها الخصب” ما يشجّع على جذب صانعي هذه التجارة لاستثمار هذا الفساد في عمليات تبييض أموالهم غير المشروعة. وعلى سبيل المثال ووفق تقرير لوزارة المهجرين كان قد نُشرَ في آذار من العام 1993، يفيد أنه في قرية الناعمة لا وجود لإشغال غير قانوني للمنازل وبالرغم من ذلك جرى دفع 650,000 د.أ. لـ 144 شخص كإخلاءات! أيضاً جرى دفع 10,000,000 د.أ فقط في عاليه لـ2000 شخص لإخلائهم 1111 منزل يشغلونه في شكل غير قانوني!

 ألا تثير هذه الأرقام المصروفة كيفياً الشّك في عقولنا عن أسباب صرفها ومَنْ هم أصحاب الحسابات المصرفية حيث أودِعت وهل تمّت مراقبة حركة هذه الحسابات فيما بعد؟

 لا تقتصر قضية الفساد على وزارة واحدة بل تطال سائر القطاعات من النفط إلى الكهرباء إلى الصحة والاتصالات… فإذا كان الفساد يشكّل أكبر حافز لتنامي عمليات تبييض الأموال لا شك في أن لبنان هو الوجهة الألماسية لهؤلاء التجار صانعيها!

السابق
حزب الله يكشف تفاصيل القتال في سوريا
التالي
حادث سير يودي بحياة خلود غزلة