التدمير المنهجي للدولة

علم لبنان ينزف
ما إن قامت الدولة اللبنانية بالحد الأدنى من مواصفات الحداثة والعصرنة، حتى أخذت تتعرض لتدمير غير منهجي شاركت فيه كل القوى السياسية، يمينا ويسارا، قبل اندلاع الحرب الأهلية، ثم تولى بعدها نظام الوصاية السوري عملية التدمير ولكن، المنهجي هذه المرة، فاستهدف الأساس الذي قامت عليه مواصفات الحد الأدنى، أي الديمقراطية والتداول السلمي للسطة. وقد كان بارعا في توظيف من ارتضى من اللبنانيين أن يكون أداة رخيصة و تافهة في عملية التدمير.

الحياة السياسية، المؤسسات الدستورية، الإدارة العامة: مصطلحات ثلاثة لها تاريخ وشجرة نسب. هي تنتمي إلى زمن قيام الدولة الحديثة في الحضارة الرأسمالية مع بداية المجتمع الصناعي. دولة الحق أو دولة القانون، وليس بين التعريفين التباس، لأن دولة الحق الهيغلية هي التي تأسست في ظلها شرعة حقوق الانسان، وهي ذاتها التي شرعت لهذه الحقوق وحمتها بالقانون.

دولة الحق والقانون هي البنية السياسية للحضارة الجديدة، وهي التي التي أسست، إذن، لعملية انتقال طويلة من دولة الاستبداد والحكم الوارثي إلى الديمقراطية، ودفعت شعوب الأرض في سبيل قيامها ثمنا غاليا امتد من محطة انطلاقتها الأولى في الثورة الفرنسية حتى الحرب العالمية الثانية، محطتها الثانية في أوروبا، ثم راحت تتسع وتمتد وواصلت رحلتها فكانت آخر محطاتها في الربيع العربي الذي ليس سوى ثورة مصبوغة بخصوصيات المنطقة العربية ومشاكلها وتناقضاتها، بعد مضي أكثر من قرنين على الثورة الفرنسية.

مع قيام دولة الحق والقانون انتهى حكم السلالات، وبدأت مرحلة التداول السلمي للسلطة، إلا في منطقتنا حيث استمر الحكم وراثيا أو بالتعيين حتى في البلدان التي تمارس الفولكلور الانتخابي كلبنان أو مهرجانات الاستفتاء بـ99 % كما في معظم العالم العربي.

ما إن قامت الدولة اللبنانية بالحد الأدنى من مواصفات الحداثة والعصرنة، حتى أخذت تتعرض لتدمير غير منهجي شاركت فيه كل القوى السياسية، يمينا ويسارا، قبل اندلاع الحرب الأهلية، ثم تولى بعدها نظام الوصاية السوري عملية التدمير ولكن، المنهجي هذه المرة، فاستهدف الأساس الذي قامت عليه مواصفات الحد الأدنى، أي الديمقراطية والتداول السلمي للسطة. وقد كان بارعا في توظيف من ارتضى من اللبنانيين أن يكون أداة رخيصة و تافهة في عملية التدمير.

تولى نظام الوصاية هدم الأعمدة في البناء الديمقراطي اللبناني، وأوكل إلى الأدوات المحلية استكمال التدمير الذاتي. بدعة الترويكا شكلت مفتاح الهدم المنهجي. معها ألغي الفصل بين السلطات، ودخل حابل السلطة بنابل المعارضة، وتم القضاء على المؤسسات الرئاسية الثلاث، وذلك بحصر المسؤولية المباشرة عن تشكيل الحكومات وإصدار المراسيم الجمهورية والقرارات الحكومية والتشريعات النيابية، في مركز قرار وحيد تولت فيه إدارة نظام الوصاية صياغة القرارات أو الإيحاء بها.

بعد ذلك بدأت عمليات التدمير المفصل، في كل مؤسسة على حدة. فصار يتم تعيين رئيس الجمهورية في عملية انتخاب شكلية،  ثم تعيين العدد الأكبر من أعضاء المجالس النيابية كل أربع سنوات، عن طريق اعتماد قوانين تحدد نتائج الانتخابات قبل حصولها (قصقص ورق ساويهم ناس). ثم اعتماد آليات في تشكيل الحكومات لا تحترم الأصول الدستورية. تلا ذلك عملية ترويع وتهديد طالت مؤسسة رابعة، هي السلطة القضائية الحامية للقانون وللحقوق، تمهيدا لتدميرها وإلغائها. بذلك صار النظام اللبناني أقرب إلى نظام الوصاية في بلد المنشأ، من وجوه متعددة : دولة دستورها معلق وأحكام عرفية أو قوانين طوارئ.

بعد تدمير أعمدة البناء صار من السهل أن تكر مسبحة الهدم، وتتداعى الجدران بأيدٍ محلية طاب لها نهج الوصاية لأنها كانت تتبادل معه الخدمات، إذ وفرت له الغطاء السياسي الداخلي ووفر لها الدعم الأمني واستخدم ضدها ومن أجلها كل أساليب الترهيب والترغيب، وتناوبت معه على استباحة سيادة الدولة تمهيدا لانهيارها.

علاقة نظام الوصاية بالقيادات اللبنانية انعكست في علاقة طبق الأصل بين هذه القيادات وجمهور الشعب، فتعممت قيم الولاء من خارج القانون والاستزلام والمحسوبيات، ما استلزم تدمير مؤسسات كانت قد أنشئت في وقت سابق في إدارات الدولة: مجلس الخدمة المدنية، التفتيش المركزي، المجلس التأديبي، ديوان المحاسبة، قانون الموظفين الإداري.

وألغيت على صعيد عملي التشريعات التي تنظم عمل الإدارة وتعطل دور مؤسسات الرقابة ومن بينها مصلحة المناقصات تسهيلا لتفشي الفساد المالي… وبذلك انهار أحد الأركان الأساسية في قيام الدولة الحديثة ألا وهو الكفاءة وتكافؤ الفرص، حتى باتت إدارات الدولة تشكو من تضخم في عديدها ( أكثر من 10 آلاف مدرس لا يعملون) من غير أن تتوقف عملية التوظيف بالتعاقد، وتحولت المالية العامة مصدرا ريعيا للارتزاق، تتوزع منه خيرات الدولة على الأزلام والمحاسيب على شكل أجور أو هبات أو قروض لغير مستحقيها في غالب الاحيان.

نظام الوصاية درب أدواته اللبنانية على عملية التخريب السياسي والاقتصادي والمالي والإداري، فكانت في غيابه أكثر براعة منها في حضوره، وعممت قيمه وراحت تتصرف بالوطن والكيان والشعب بالنيابة عنه لا بالأصالة عن نفسها، فتقاسمت السلطة والثروة وإدارات الدولة ضاربة عرض الحائط كل اعتبار للدستور والقانون.

الأزمة الحقيقية استظلت نوعين من الصراعات المغلوطة: النوع الأول يندرج تحت اسم الصراع الطائفي فيما يندرج الثاني تحت أسماء الصراع الطبقي أو القضية الاجتماعية والمطلبية، أو العدالة الاجتماعية، أو الصراع بين الفقراء والاغنياء، وهي كلها لا تمثل الصراع الحقيقي ولا الأزمة الحقيقية.

في النوع الأول استخدمت الطوائف والمذاهب ستارا لتقاسم مؤسسات الدولة والثروة الوطنية والإدارات والأجهزة الأمنية والعسكرية والسلطة القضائية. حصل ذلك باسم الطوائف لا بين الطوائف وليس من أجل الطوائف. حصل بين ممثلين للطوائف ورثوا السلطة من بنية سابقة على الاستقلال أو صادروها بقوة السلاح والميليشيات من خارج الدولة، أو باستدراج قوى خارجية لم يتعفف عن فعله أحد، فكانت حرب الآخرين على أرضنا أو حروبنا ضد بعضنا بعضا بقيادة الآخرين ومساعدتهم،  ولم يهتم أحد في حينه، إلى أن الخارج الذي يستقوون به، من القوى الاقليمية، إنما كان يعمل لما يرى فيه خدمة لمصالح بلاده، على حساب الطوائف،  وإلى أن الثمن الذي كانت القوى المحلية تدفعه مقابل ذلك هو تنظيم الحرب بين الطوائف والمذاهب، وتهديم بنية الدولة وانتهاك سيادتها. ومن أسف أنه لا تلك القوى التي استدرجت السوريين والاسرائيليين والفلسطينيين والمحيط العربي كله وأدرجت الصراع اللبناني اللبناني في حمأة الصراع على القضية الفلسطينية أو في صلب الصراع العالمي بين القطبين، ولا تلك التي يطيب لها اليوم أن تستدرج إيران أو تركيا وسواهما،  تعلمت من التجربة ولا قرأت المتنبي في قوله :

 ” من يجعل الضرغام للصيد بازه       تصيده الضرغام في ما تصيدا”.

في ظل نظام الوصاية تعممت قيم الفساد وتحولت السلطة إلى غنيمة وإدارات الدولة ووزاراتها إلى ملكيات خاصة للمحاصصين، فباتت الشكوى محرمة وهذه ذروة الاستبداد. وما زاد في الطين بلة، أن المحاصصين استخدموا الطوائف والمذاهب دروعا فأوهموها أنهم يمثلون مصالحها ويدافعون عنها، وجعلوها تتلقى سهام النقد بديلا منهم، وحولوها إلى متاريس في مواجهة أصحاب المصلحة في قيام الدولة المدنية العلمانية.

 النوع الثاني من الصراع يتحمل مسؤوليته العلمانيون والتقدميون واليساريون، مناصفة مع الاقتصاديين. أطراف الفريق الأول مسؤولون لأنهم وضعوا تشخيصا مغلوطا لأزمة الوطن منذ بداية تأسيسه وما بدلوا تبديلا، فراحوا يصوبون على الطائفية والمذهبية لا على المحاصصين، ويكررون هجومهم على الجشع الراسمالي والطغمة المالية والمصارف والاحتكارات، ومازالوا يعتقدون،  منذ الاستقلال حتى اليوم، أن الطائفية والنهب الرأسمالي هما مرض النظام السياسي. حلول الالغاء، إلغاء الطائفية وإلغاء الراسمالية كانت دونكيشوتيه وطوباوية، لأن المرض الحقيقي يكمن في المحاصصين من الطبقة السياسية الذين يخربون الاقتصاد الوطني، ويبددون جهود الاقتصاديين، ويوظفون الثروة الوطنية المادية والبشرية،في خدمة مصالحهم الضيقة ، ويسارعون إلى استدراج الخارج ومساعدته على انتهاك سيادة الدولة ودستورها وقوانينها.

ربما صار الأمر يحتاج إلى تغيير قواعد اللعبة من أجل ربيع لبناني يعالج مسألة الاستبداد المقنع فيه : الشعب لا يريد تغيير النظام، الشعب يريد استبدال رجال السياسة المحاصصين برجال دولة، الشعب يريد تطبيق القانون واحترام الدستور.

  • مداخلة ألقيت في ندوة نجمع لبنان المدني في ويفز، عن التحديات اللبنانية في زمن الأزمة السورية12-4-2014
السابق
تقارب سعودي – إيراني برغبة أميركية يدفع الحلول في لبنان
التالي
طائرات حربيّة أردنيّة تدمّر آليات سوريّة حاولت اجتياز الحدود