رئاسة وقيادة

كلما بالغنا في الحديث عن مواصفات رئيس الجمهورية، أو أسهبنا في استدراج الأفكار الرئاسية والمشاريع، وقعنا في الأوهام ونشرنا ثقافة معاكسة للإصلاح. حدد الدستور بوضوح موقع الرئيس في التوازنات الوطنية «الطائفية» وحدد علاقات الفصل والتعاون بين السلطات. لا يشكل الرئيس محور النظام الطائفي، ولا يشكل سلطة دستورية مستقلة لها حق المبادرة. هذا هو نظامنا البرلماني بعد إزالة الصفات والصلاحيات الرئاسية منه بعد «الطائف».

نظرية «الرئيس القوي» بمختلف أشكال القوة ومعانيها لا مكان لها في النظام الحالي، ولا سبيل لها في الحياة السياسية اللبنانية. أما الطموح لوجود صفات ومواصفات شخصية مميزة علمية أو أخلاقية أو حتى فروسية فلا نظنه بضاعة رائجة اليوم.
الرئيس المطلوب هو القادر على استخدام صلاحياته والتعامل معها على أنها ضمانات، إذا أحسن تفعيلها، وليست مراكز قوى. ولا حاجة للتفصيل في «حقوق النقض القانونية» المعطاة للرئيس بصفتها كذلك، لا بصفتها سلطة تشريعية أو تنفيذية أو قضائية. أي حديث آخر هو رغبة محترمة ومسموعة ومفهومة لتعديل النظام في ركيزتيه الطائفية والسلطوية.
ربما كنا بحاجة إلى ذلك، لكن الحاجة الملحة والأكثر أهمية أن نطبق الدستور، وأن نحدث تغييراً في المؤسسات السياسية الشعبية بخاصة «الأحزاب» وقانون الانتخاب، لأن هذه هي البيئة المنتجة لفساد السلطة من حيث صحة التمثيل والعدالة والديموقراطية. فإذا كنا فقدنا حق الانتخاب الدوري للسلطة التشريعية بالتمديد، بعد أن فقدنا القانون العادل، وفقدنا رقابة المجلس الدستوري بعد أن فقدنا مصداقيته وهيبته، وفقدنا المعايير والقواعد الأساسية لدولة القانون والديموقراطية فلا نظن أن الرئيس الذي تستولده هذه المعطيات يستطيع أن يحيي العظام وهي رميم. ليس هذا نعياً للإصلاح أو للتغيير، بل لأجل أن نضيء على المداخل الفعلية له.
لا توجد إرادة سياسية وطنية في ما نعلم لبناء دولة وفق ما هو في الدستور حتى لا نذهب في طرح الأفكار والمشاريع والتصورات. أصابت الفكرة الوطنية اللبنانية نكسة خطيرة منذ الحرب الأهلية أي منذ أربعة عقود، ولم نخرج من مفاعيل وتداعيات هذه النكسة لا وعياً ولا واقعاً. ومن تناحر الطوائف انحدرنا إلى تناحر التيارات الدينية ومشاريعها السياسية على وقع فوضى شاملة تضرب المنطقة كلها من حولنا. ولا ندري ما إذا كنا اليوم في مئوية حرب 1914 أمام تفاهمات أو مشاريع قد تلائم أكثر جسم القوى السياسية التي تنطلق من يهودية الدولة في فلسطين المحتلة، وتمر بالممالك المذهبية الإسلامية. هناك حقيقة صادمة مدوّية لا تفيد معها النيات والرغبات والإسقاطات الجزئية تقول ببلوغ العرب القعر والحضيض في إدارة اجتماعهم السياسي والمحافظة عليه.
لسنا الآن في الوجهة المعاكسة لما كان في حرب الـ14، بل نحن في لحظة ارتداد عن إنجازات، إذا صحت تسميتها كذلك، النضال الوطني والقومي والاجتماعي. ليست الأنظمة وحدها على هذه الصورة، بل الثقافة السياسية الشائعة ووسائل وآليات وأطر العمل السياسي كلها. هذا البؤس هو الذي استدعى الثورة عليه لكنه لا يمكن أن يعالج بأفكار وأدوات الماضي ومفرزاتها. لأن البؤس هذا لم يكن مجرد ضعف في الأدوات المادية بل في البيئة الإنسانية أو «الحضارية»، كما يختصر البعض.
فإذا عدّدنا حروب هذه الأمة الكثيرة وشهداءها بلداً بلداً خلال هذه «المئوية» فقط، لخجلنا من حجم المعارك والتضحيات. ولم تكن تلك معياراً أو ركيزة لمناعتنا اليوم، في استقلالنا ووحدتنا وتقدمنا، وفي تطور سلوكنا الإنساني وثقافتنا.
هذا الخلل «الأصلي» العربي الناشئ عن ظروف تاريخية ليس مسؤولية فرد، سلبياً أو إيجابياً، أو جماعة بل مسؤولية المجتمع. هو مسؤولية الفرد والجماعة كلما كان الأمر يتعلق بتنحية المجتمع عن الفعل الحر والحلول مكانه ونيابة عنه باسم أية قضية أو فكرة. لذلك نحن الآن في حالة استحضار عاطفي وحنين لقيادات تاريخية عربية وضدها في آن. نحن مع وعودها وصدقية تفكيرها ونظافة مسلكها الشخصي وضد أدواتها وممارستها وإنجازاتها المتقطعة والمهدورة والمشوهة والمندثرة. لا يحتاج العرب بعد إلى أبطال بل إلى أن يستردوا لأنفسهم دور الشعوب التي تقبل أو لا تقبل أن تُحكم بشروط، وأن تُقاد بشروط فيها مكان للمساءلة والمراجعة كل يوم.

السابق
الجيش : طائرة استطلاع معادية خرقت اجواء البقاع
التالي
مصدر أمني ليبي: اختطاف السفير الأردني في طرابلس الغرب