حظّ الموحّدين الدروز العاثر

لم يتناول الكتّاب والمثقفون الدروز في العقود السابقة – وأنا آخرهم – مرة واحدة الشأن الدرزي باعتباره درزياً، طائفياً أو مذهبياً. كانت مقاربتهم دائماً قومية، أو وطنية، أو اجتماعية.

ذلك هو التقليد الثقافي العريق الذي أرساه كبار المفكرين والكتّاب الدروز طوال مئة سنة: من شكيب أرسلان وعادل أرسلان وعجاج نويهض إلى علي ناصرالدين وشكيب النكدي وصولاً إلى كمال جنبلاط، كأبرز الأمثلة القوية المعبّرة.
رأى أولئك جميعاً – وغدا ذلك تقليداً متوارثاً لدى الناشطين السياسيين الدروز – أن تصحيح أوضاع الشأنين القومي والوطني كفيلٌ بإيجاد الحلول الصحيحة والدائمة لمشكلات الدروز، وغير الدروز، السياسية والاجتماعية والاقتصادية وسواها. وعليه لم ينعقد يوماً مؤتمر درزي أو يقوم تجمع يبحث شؤون الطائفة أو يدعو إلى إظهار وحدتها وعصبيتها في وجه الطوائف والمذاهب الأخرى. بل نادراً ما حمل وفد درزي إلى لقاء أو مرجع لائحة بمطالب الدروز الخاصة، وإنما لائحة بمطالب الوطن أو الفئات الاجتماعية الضعيفة فيه أو المناطق والأطراف المحرومة منه.
لذلك لا يخشى كاتب هذه السطور أن تذهب الظنون بامرئ ليظنّ أن الكتّاب والمثقفين الدروز اليوم قد بدّلوا من نهجهم في النظر إلى مسائل الوطن أو من نوع مقاربتهم لقضاياه، ومنها القضايا الراهنة الضاغطة والملحة لشرائح واسعة من الطائفة الدرزية الآن، موضوع هذه المقالة. لكنّ الكتّاب هؤلاء، وأنا منهم، سيكونون في منتهى المثالية والطوباوية والغباء، بل والخداع لجمهور المجتمع الدرزي، لو زعموا أن أمور الدروز منذ فترة هي في أحسن حال، أو أن أمر علاقتهم بالإدارة اللبنانية، وحقوقهم فيها على وجه التحديد، هي طبيعية، عادلة، ومماثلة لعلاقة أو حقوق أية مجموعة أخرى من المجموعات الطائفية المكوّنة للمجتمع اللبناني.
أوضاع الدروز في الإدارة اللبنانية اليوم، وحقوقهم فيها التي يكفلها الدستور بخاصة، باتا منذ فترة، وتحديداً في زمن “الجمهورية الثانية”، على خلل فادح لا يليق بوطن يجب أن يتساوى أفراده ومجموعاته في الحقوق والواجبات، ولا يليق كذلك بطائفة تُجمِع مدونات المؤرخين أنها ساست إمارة جبل لبنان لمئات السنين بالحكمة العميقة ورجحان العقل وسعة الصدر والتنوع والمشاركة من كل الفئات الدينية المكونة للمجتمع اللبناني. ولو لم تكن الأمور كذلك فما الذي جلب إلى الجبل ولبنان كل الطوائف والمذاهب الإسلامية والمسيحية المعروفة هذه؟
إنها “حكمة” أمراء الموحدين الدروز الذين كانوا أرسلوا من شمال الجزيرة العربية لحماية الثغور ضد حملات الفرنجة، وخاضوا لذلك أشرس المواجهات مع الصليبيين، انتصروا في بعضها (معركة عين التينة في بيروت) وهزموا في سواها (موقعة نهر الموت التي كلفتهم مئات القتلى بينهم عدد كبير من أمرائهم)، واقتضت المهمة العربية القومية تلك التضحيات الجسام في الأموال والممتلكات وفي الأرواح على وجه التحديد – وإلى درجة الخلل الديموغرافي الذي اكتمل بالهجرة إلى حوران وحلب وفلسطين التي حدثت لآلاف الأسر الدرزية بنتيجة العقوبات التي فرضها عليهم التدخل الغربي الذي جلب حوادث 1860 وكان قد أنهى قبل ذلك بعشرين سنة الإمارة الدرزية.
وتكررت ثوراتهم مرة بعد مرة مع كل الغزاة الذين قدموا إلى الجبل وحاولوا سلب استقلاله النسبي وحريات أفراده، مع المماليك، والعثمانيين، وابرهيم باشا ثم الانتداب الفرنسي. وآخر ثوراتهم المشهودة كانت مع المستعمر ذاك طوال سنتي 1925-1926، التي بدأت في جبل الدروز الكبير وسرعان ما امتدت إلى وادي التيم وأنحاء من جبل لبنان. والغريب أنه في الوقت الذي كانت فيه مجموعات معينة تطالب بكيانات خاصة بها، كان الدروز في ثورتهم المشهودة تلك يرفضون ثم يسقطون مشروع إقامة دولة درزية عاصمتها السويداء، إلى جانب دول طائفية أخرى في سوريا والمشرق العربي.
وتكرر تقليدهم القومي والوطني ذاك في تصدرهم معركة استقلال لبنان وسوريا سنة 1943، وتحول بعض قادتهم وأمكنتهم (الأمير مجيد أرسلان وبشامون وشهيد الاستقلال الوحيد سعيد تقي الدين) رمزاً للاستقلال. ثم مرة أخرى في المعركة ضد الفساد سنة 1951 كما ضد الأحلاف الأجنبية سنة 1958، التي تصدر واجهتها كمال جنبلاط يومذاك، وانتهت – في ظروف إقليمية مناسبة – بأن أرست للمرة الأولى منذ زمن طويل دعائم الدولة اللبنانية الحديثة (الدولة الشهابية) والمتوازنة في الحقوق والواجبات للمجموعات اللبنانية المكونة للمجتمع اللبناني.
وكانت ذروة معارك الدروز القومية والوطنية مواجهات 1975-76 التي تصدت للتداعيات الطائفية التي أفادت من هزيمة عبد الناصر سنة 1967 وأدخلت البلاد في فتن مهدت للحرب الأهلية التي اندلعت بعد ذلك وكان الدروز والأمكنة التي يسكنون فيها طليعة المواجهات تلك ومسرحها الدامي. لكن الدروز، وبقيادة كمال جنبلاط ومعه الحركة الوطنية، لم يخوضوا تلك المواجهات، التي اتسعت سنة 1982 لتشمل الاجتياح الإسرائيلي وبوارج الأسطول السادس التي دكّت مناطقهم، وامتدت حتى سنة 1989، وكلفت من جديد مجتمعهم المنهك بالتضحيات حوالى خمسة آلاف قتيل وضعفهم من الجرحى، تحت درزية أو طائفية أو فئوية، وإنما بعناوين وأهداف وطنية – اجتماعية تحديثية وإصلاحية بامتياز.
لكن “الجمّال كان في جانب والجمل في جانب آخر”؛ إذ إن الاتفاقية التي أنهت الحرب تلك، إتفاقية الطائف، تنكّرت لكل ما هو وطني واجتماعي وتحديثي، ولكل التضحيات التي أوصلت إلى الطائف، وأنجزت بدلاً من ذلك صفقة طائفية بامتياز – يمكن القول بثقة أن الدروز ومن خلال عشرات الأمثلة كانوا الضحية الأبرز لها.
ومنذ ذلك الحين، أي مع قيام “الجمهورية الثانية”، وتأثير وجود الراعي السوري الحذر من الدروز وقياداتهم، بدأ الوجود الدرزي يتراجع بل يتلاشى في الإدارة اللبنانية، في وزاراتها ومؤسساتها ومصالحها كافة – خلا القطاعات العسكرية والأمنية والتربوية التي استمر وجود الدروز فيها واضحاً لا لشيء إلا لأنها قطاعات صعبة غير مجزية مادياً ومتروكة لذلك لأبناء اللبنانيين الفقراء، دروزاً وغير دروز. خلا القطاعات تلك، بات للدروز – وعلى سبيل المثال لا الحصر – مدير عام واحد بين أكثر من عشرين أو ثلاثين مديراً في الوزارات ومؤسسات الرئاسات، وكذا في المصالح والدوائر وسلطات الخدمات. هناك اليوم مؤسسات ومصالح رسمية أو شبه رسمية تضم مئات الموظفين وقد لا تجد فيها غير موظف درزي واحد أو اثنين – وهي معروفة ولا حاجة لتعدادها. لقد بات الدروز بحق “هنود حمر الإدارة اللبنانية”: هنا كانوا، تدلّ على ذلك الصور المعلقة على الحيطان، وقبل أن تهيمن على الإدارة بكل تفاصيلها هذه الطائفة، ثم تلك، ثم تلك.
والغريب أن الدروز لم يعترضوا، كما كان يجب، لا على صفقة الطائف التي غابوا عن لحظات ولادتها، ولا على زيادة عدد النواب إلى 128 دون أخذ عددهم الوازن في الاعتبار، ولا على القضم التدريجي لحقوقهم في الإدارة اللبنانية، مديرين وأفراداً وخدمات وترقيات إلخ. لقد أدّى عدم الاعتراض تكراراً إلى نشوء وهم عند البعض أن الدروز غير مبالين بما يحدث لأوضاعهم وحقوقهم ومستقبلهم في الإدارة بالتالي. وأوصل الوهم ذاك البعض إلى التوغل أكثر في الصفقات الطائفية الفئوية – كمثل المطالبة بطائف جديد يتشكل على قاعدة مصالح طوائف ثلاث حصراً ودون الدروز المؤسسين للإمارة اللبنانية ثم المساهمين بقوة في تكوين الكيان اللبناني.
في ظل هذا الإقصاء للدروز عن مفاصل الإدارة، ماذا يفعلون اليوم، وبخاصة في الأرياف والأطراف؟ كيف تعيش غالبيتهم؟ كيف يتدبرون أمر حياتهم وحاجاتهم؟
لا نكتشف جديداً حين نشير إلى الضائقة الاقتصادية التي يعاني منها أكثر الأسر الدرزية الفقيرة والمتوسطة الحال، وبخاصة في الأرياف والأطراف كما قلنا. ففي ظل البطالة العالية التي تبلغ ثلث قوة العمل المفترضة، لا يجد معظم شبّان الدروز – الذين لم ينتسبوا إلى القطاعات التي أشرنا إليها – غير الاختيار بين أمرين أحلاهما مرّ: الهجرة الكثيفة إلى أي مكان وبأية شروط ولمن يتاح له ذلك، أو الانطلاق عند السادسة كل صباح في عشرات الحافلات الصغيرة تنقلهم وتنقلهن من قراهم إلى “المُولات” والسوبرماركات وشركات الحراسة المنتشرة من ضبية إلى خلدة، يبحثون بأجسادهم النحيلة عن فتات من المال يقيهم ويقيهن شرّ العوَز والحاجة في مجتمع لم يتعوّد مدّ الأيدي أو الصراخ طلباً للمساعدة.
لا ينجو من هذا المصير البائس الذي يحيق بمعظم الدروز اليوم غير قلة من ذوي الحظ والحظوة تبلغ حوالى واحد في المئة الى اثنين في المئة ولأسباب عدة، كما هي الحال في كل جماعة في لبنان.
أما الذين لم يتح لهم واحد من الخيارات أعلاه، فماذا عساهم يفعلون؟ هُم، وعلى قاعدة أن الشكوى لغير الله مذلّة، يعضّون على جراحهم، ويأملون أن الأيام التالية ربما حملت لهم ولأسرهم العدل والإنصاف فيُرفعُ عنهم الظلم والإجحاف المحيقان بهم منذ سنوات، فيمنحُ أبناؤهم وأجيالهم الشابة فرصاً مساوية لفرص سواهم في الوطن الذي بناه أجدادهم مع سواهم وضحّوا في سبيل استقلاله وحريته كما لم تفعل أية مجموعة لبنانية أخرى.

السابق
قانون العنف ضد المرأة وسائر أفراد الأسرة.. خطوة مهمة
التالي
نقمة على ’المستقبل’ في الاماكن الساخنة في طرابلس