الاجتماع الحزبي الأول لكل منا قصة بطولية وأسماؤنا السرية

هناك، في البيت العتيق، من بناية لا ترتفع أكثر من ثلاثة طوابق، وفي غرفة تم اختيارها بعيداً عن المدخل وعيون الجيران، كان أول إجتماع «حزبي» أُدعى إليه بعدما ترقيت من رتبة «صديقة» الى رتبة عضوة «حلقة» في منظمة العمل الشيوعي في لبنان. إلى الغرفة المغلقة بإحكام، يدخل «مسؤول» الحلقة، الرفيق سعيد، متأخراً بضع دقائق. هل هي أولى صفات «القياديين» المتواعدين مع الأدنى منهم رتبة؟ أم أنها صفة دهاء، لا قلّة دقة؟ لكن الرفيق المسؤول سعيد هو أكثر من ذلك: يدخل إلينا متجهماً، عابساً، ناشفاً، مهموماً، قليل الكلام، مقتصر على جوهره. أول ما يشدد عليه هو «السرية»: الاجتماع سري، مضمونه طبعا كذلك، فضلاً عن أسمائنا. نختار بالتفاهم معه أسماءنا السرية، فأصبح منذ تلك اللحظة الرفيقة سهى، ثم الرفاق كمال وسامية وغسان وجان؛ وكلنا الخمسة تلامذة صفوف ثانوية، سبق أن تعارفنا أثناء إحدى التظاهرات أو حملات التبرع المنطلقة من نادي «الرواد» العروبي، ومركزه في فيلا قديمة، في حي رأس النبع. ولكل واحد منهم قصة بطولية يرويها. أنا مثلا طُردت من ثانوية مدام عون الرسمية، في نهاية سنة الثانوي الأولى، أي «السيكوند»، بعدما خرجت، مع تلميذات أخريات من صفي للتظاهر مرتين خلال العام الدراسي.
أما الذي اختار كمال إسماً سرياً له، فقد شاهدته أمه، في شرفة غرفة نومه، في بداية إحدى الليالي، ملتصقاً بابنة الجيران، يقبلها ويمسك بخاصرتها بقوة، في حي فردان الراقي. لم تنتظر تواري ابنة الجيران السريع، حتى أنبّته بعنف، وكادت أن تصفعه لو لم يقل لها كلاماً عن حريته «الجنسية»… عن حقه وحق ابنة الجيران… وأشياء أخرى عن الشباب، لم تفهمها، لشدة ما هي بعيدة عن عقلها. نقلت هذا الكلام الى والده الذي زاده توبيخاً، لم يسأله كثيرا عن اسطوانات سرج رجياني وجورج موستاكي، ولا عن المجلات التي تأتيه من باريس، عبر ابن عمه عدنان، ولا عن تلك الرحلة القصيرة الى باريس، وقد استقبله هناك عدنان، وتباهى أمامه بـ»ثمرات» ثورة أيار 1968» الشبابية، وشعارها «ممنوع المنع»، عن علاقة تلك الثورة بالنضال في فلسطين… فحرد كمال، وقرر «مقاطعة» أهله، فامتنع عن قبض «الخرجية» الدسمة؛ ليتقرب بذلك من أبناء الطبقات الشعبية كما يروي لنا.

سامية بطولتها في القراءة. تستعير كتاباً من شقيق زميلتها ماري تيريز، وقد تعرفت عليه يوم زارتها في منزلها؛ انه كتاب لفردريك انجلز «أصل العائلة والدولة والملكية الخاصة «. في إحدى الصباحيات، تكون سامية مستغرقة في صفحات هذا الكتاب، بانتباه وتركيز، أثناء تناولها ترويقتها، قبل الذهاب الى المدرسة، ناسيةً ما حولها، فلا تسمع زمور الباص الصباحي… ولا تنتبه إلى غفلتها إلا بعد ساعة، عندما تستفيق والدتها من نومها المخدَّر. فهي تتناول كل ليلة حبوب المنوم لكي لا تنتظر زوجها، «الخفيف»، كما تقول أمام أولادها. وعندما تشاهد ابنتها هكذا، ما زالت في المطبخ، غارقة في كتاب، والشمس قد طلعت، تنهرها وتسألها، فتجيب سامية: «أقرأ أصل كذا…». «ماذا؟ تقرئين؟ ماذا قلت…؟ أصل ماذا؟! والمدرسة؟! ألم يأت الباص؟ « تصرخ بوجهها، وقد تبخر المنوم من رأسها. تنتزع الكتاب من يديّ سامية، وتهددها بأنها سوف «تقول» لأبيها. في المساء، تنتظر والدة سامية زوجها السكير، لا تأخذ حبتي المنوِّم. وعندما يحضر، ترمي بوجهه الكتاب وتقول له بأنه يحسن به أن ينتبه لابنته بدل «الدوَران على بنات الناس». والأب، الذي تعرفه، في شبابه، كم كان شغوفاً بالتاريخ، يستفيق من سكرته، يروح يتصفح الكتاب بحشرية لم تعهده بها منذ خطوبتهما. يقول لها بأنه سوف يقرأ الكتاب بدقة وعلى مهل، كاتما غضبه، على غير عادة السكارى. بعد أيام، لم يسهر فيها أبداً خارج البيت، ما أفرح قلب زوجته، ينتظر سامية ويسألها عن الكتاب، فتجيب ما فهمت منه، من أنه يتحدث عن أن الملكية الخاصة، هي سبب اضطهاد الرجال للنساء. هنا تبدأ معركة «فكرية» بين سامية وأبيها، تنتهي لغير صالحها. حجة الأب «منطقية» ومفحمة، انه بصفته صاحب ملكية، ميسور والحمد لله، لا يمكنه أن يقبل بهذه التخاريف. وبأنه ممنوع على سامية من الآن فصاعداً الذهاب إلى السينما، حتى ولو مع بسام، أخيها.

جان، إبن المصيطبة أباً عن جد، بطولته مختلفة. يروي عن والده، أستاذ اللغة العربية في إحدى المدارس الخاصة، الذي توفي بعد ولادته بشهرين. وعما تكبدته والدته من أجل تربيتهما، هو وأخيه، ووصولهما إلى الصفوف الثانوية. حتى هذه اللحظة، يقول، كنت أعتقد بأن أخوالي هم الذين يعينون أمي على مصاريفنا، وبأن أمي ربة منزل محترمة، تنتظر عودة أولادها من المدرسة، لكي تسهر وتربي وتنشئ… ولكنني عدت مرة من المدرسة بعد إعفائي من درس الرياضة، ولم أجدها في البيت. سألتُ جارتنا أم نبيل، فقالت انها ذهبت لعند السيدة ماريا جبريل، كما كل يوم. ماريا جبريل؟ القاطنة في المنزل القديم الكبير هذا؟ وكل يوم؟ ماذا تفعل هناك؟ سألت. «ولو شو ما بتعرف؟ بتنظفلها البيت»، أجابت أم نبيل. فكانت صدمتي منذ سنة… لم أقل لأمي شيئاً، ولا لأخي؛ هو أكبر مني، وقد تربى على انه «الرجل» في البيت. قد يؤذيها بكلامه لو اكتشف. ماذا فعلتُ؟ اتفقت مع صاحب الدكان أن أوزع عنه الجرائد، مقابل عشرين قرشاً في النهار. هكذا صار بوسعي ان أتحدى ماريا جبريل كل يوم، عندما أوصل لها الجريدة، أن «أضع عيني على عينها»، وبحزم، كأنني أقول لها بأن مالها لا يلزمني. عشرون قرشاً في النهار والتحدي الطبقي؟ ماذا أريد أكثر من ذلك؟

غسان يقول عن نفسه انه إبن الجنوب البار. قبل ولادته، كان والده ترك القرية وهرب الى بيروت بحثاً عن عمل وأمان. والدة غسان لم تنسَ حسرتها على الضيعة طوال هذه السنوات. كانت كلما استجمعت قواها بعد أيام الضنى على ولادة اولادها السبعة، وغسان أوسطهم، تحملهم كلهم الى قرية أهلها القريبة من قرية أهل أبيه. هناك يروي له أهل أمه حكايات عن فلسطين، عن المكتب الثاني، عن الفدائيين، عن زراعة التبغ… وغسان كله آذان، يسمع و»يراكم»، كما يقول، معتزاً بتعبيراته الثورية الجديدة. في أحد الأيام، وهو عائد من المدرسة مع أخيه الأكبر منه، علي، رأى غسان الجيران متجمعين على باب منزلهم، يبكون وينتحبون، وفي الداخل، رائحة ماء زهر قوية، وقرآن… أين أمه؟ أين أبيه؟ بقية أخوته؟ يهرع غسان إلى غرفة النوم، إلى حيث الأنظار كلها مشدودة، فيجد أمه مثل الغافية، وأبيه فوق رأسها يبكي. فيصل استشهد يا ابني… فيصل استشهد. كان مع الفدائيين، في معركة على الحدود، أصابته رصاصة في الرأس، فاستشهد. غسان «يصحو» باستشهاد أخيه الأكبر، كما يقول. «ينتبه» إلى صراعنا مع إسرائيل، يريد أن يكمل مسيرة أخيه، فيهرب من البيت إلى الجنوب. لكن أهله يلحقونه ويعيدونه إلى بيروت، ويفرضون عليه نظاماً صارماً ورقابة بين البيت والمدرسة، لم يخفّا إلا بعد سنة، ليلتحق بنا عن طريق ابن عمته عباس، الأكبر منه، والذي «يعرف» المنظمة منذ عامين.

كلنا أعضاء الحلقة هذه، يعرف قصص بعضنا. أما الرفيق سعيد، المتجهم، في لحظة الاجتماع الحزبي الأول، فهو شخص سبقته هيبته. كلنا متفاهمون، بإشارات عيوننا وحواجبنا، ان الرفيق سعيد له قصة أعظم من قصتنا؛ بدليل انه آت من مكان هو «القيادة» العليا للمنظمة، نعرف أعضاءها بأسمائهم، اللامعة، الحاضرة في المهرجانات الطويلة مثل الأنهار العابرة للقارات. ربما هو هكذا لأنه يمثلهم، أسرّ لنفسي… «هو» و»هم« هكذا، هؤلاء الذين «يمثلون»، لأنهم يحملون الأمة كلها على أكتافهم العريضة، ينشغلون بها ليلاً نهاراً، يفكرون كيف يخرجونها من هذه الهزيمة والتخلف والتبعية والإقطاع والطغمة المالية والرأسمالية…

ولكن الآن، الآن، لا أعرف شيئاً عن «قصة» سعيد، ولا رفاقي يعرفون. أخمن فقط، ولا أبوح بشيء لرفاقي؛ الجو جدي، لا يسمح، ولا شخصية سعيد نفسه تسمح. وهو يتكلم عن طبيعة اللحظة، وبعدها عن المهام التي تنتظر الرفاق. أشرد في وجهه الشاحب الضئيل؛ ماذا وراء إنغلاق هذا الوجه على نفسه؟ أليس عنده، مثلنا، قصة تُروى؟ أقوى من قصتنا؟ أم إنه أتى إلى المنظمة بمحض عقله البارد؟ أم إن واجبه «التنظيمي» أن يكون مثل الثلج، ضاربا في الصقيع؟ أن تكون مسافة بينه وبين أعضاء الحلقة، هو مندوب الخلية التي «تديرنا»؟ بالتأكيد بالتأكيد، أقول لنفسي إن سعيد له إنجازات، لا مجرد قصة بسيطة من النوع الذي نعتز به، نحن الرفاق القاعديين، الآتين من تحت. قد أترقى يوماً، أعد نفسي، إلى مستوى خلية، أو هيئة قطاع، أو لجنة مركزية، أو مكتب سياسي. من يعلم؟ فأنا «نشيطة» ومخلصة، أعطي مثله الأولوية للنضال. من يدري؟ قصة سعيد سوف أعرفها عندما أصل إلى مستواه أو أعلى (…).

(قبل وصولي إلى مرتبة تسمح لي بخرق سر سعيد، أي بعد فترة على اجتماعنا الحزبي الأول هذا، اكتشف ان كل القصص التي رواها غسان وسامية وعارف وجان، كانت ملفقة ومجمَّلة، وإن حقيقة واقعهم مختلفة وعويصة).

السابق
هنري حلو للرئاسة؟
التالي
«حزب الله» لا يستعجل الترشيح للرئاسة ويعزز قنواته مع «المستقبل»