رسالة الانتخابات التركية

التوتر الحاصل في علاقات القاهرة وأنقرة لا ينبغي له أن يحجب عنا التعرف على دلالات ودروس الانتخابات التي جرت هناك، ليس فقط لأن بعضها يفيدنا ولكن أيضاً لأن البلد يهمنا.

(1)
هي انتخابات بلدية حقاً، جرت في يوم 30 آذار، لكنها شكلت امتحاناً لشعبية حزب العدالة والتنمية الذي يحكم البلاد منذ اثني عشر عاماً (عقب فوزه في الانتخابات التشريعية التي جرت العام 2002). في الوقت ذاته فإنها كانت مصيرية بالنسبة لمستقبل وطموحات رئيس الحزب ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وهو من أعلن انه سوف يستقيل من منصبه ويعتزل السياسة إذا لم يفز حزبه بالأغلبية في البلديات. ناهيك عن ان الفوز يفتح الباب أمام الرجل كي يخوض مطمئناً انتخابات رئاسة الجمهورية التي يفترض أن تتم في شهر أغسطس من العام الحالي. وإذا ما تحقق له الفوز الذي بات مرجحاً، فإن ذلك يوفر ظرفاً مواتياً لفوز حزبه في الانتخابات التشريعية التي ستجري في العام المقبل. وفي حال اجتياز تلك المراحل فإن حلم أردوغان وحزبه في الاستمرار في السلطة حتى العام 2023 يصبح وشيك التحقيق، وتكمن أهمية ذلك العام انه بحلوله تكون الجمهورية التركية قد بلغت من العمر مئة عام. وهو الموعد الذي ضربه أردوغان للانتهاء من إنجاز بعض المشروعات العملاقة التي يفترض ان تمثل نقلة كبرى للدولة التركية، بحيث تنقل من مصاف الدول العشر الأقوى اقتصادياً في العالم، لتصبح ضمن الدول الست الأقوى. وفى مقدمة تلك المشروعات جسر «مرمراى» الذي يمر تحت مياه مضيق «البوسفور» ليربط بين آسيا وأوروبا، من خلال نفق اسطواني بطول 3000 متر وبعمق 60 متراً تحت سطح المياه. وهو حلم قديم راود سلاطين العثمانيين قبل 150 عاماً، ولكن أردوغان، تعهد بالانتهاء من تنفيذه قبل حلول الذكرى المئوية.
(2)
في شهر أيلول من العام الماضي (2013) أجرت مؤسسة «كونسنس» (الاجماع) إحدى أهم شركات استطلاع الرأي التركية نتائج دراسة ميدانية أجرتها حول الخيارات السياسية والاجتماعية في البلاد. وقد اكتسبت دراستها أهمية خاصة لأنها تميزت بإطلاق أقرب التوقعات لنتائج الانتخابات العامة التي أجريت في عام 2011. وبعدما أجرت الشركة مسحاً لآراء المشاركين في الولايات التركية كانت النتيجة كما يلي: 50 في المئة رأوا أن البطالة هي أهم مشكلة يعانون منها. في المرتبة الثانية (48 في المئة) جاءت مشكلة الإرهاب وبعدهما في الترتيب توالت مشكلات التعليم والديموقراطية والحريات والغلاء. 50 في المئة من الناخبين أبدوا استعدادهم للتصويت لـ«حزب العدالة والتنمية»، حزب «الشعب الجمهوري» الذي يعد أبرز الأحزاب المعارضة حصل على 27 في المئة فقط من الأصوات. بيَّن الاستطلاع أيضاً ان حزب «العدالة والتنمية» سيحصل على نسبة أقل من الأصوات (40 في المئة فقط) في المناطق الساحلية المطلة على بحر «ايجه» وفي المقدمة منها مدينة أزمير المعروفة بقواعدها اليسارية والعلمانية والاتاتوركية. لوحظ أيضا ان 43 في المئة من الأصوات أيدت تحرك الحكومة لحل المسألة الكردية، و39 في المئة قالوا ان حزب «العدالة والتنمية» نجح في الحرب على الإرهاب، في الشأن الخارجي عارض 48 في المئة سياسة أردوغان إزاء مصر مقابل 40 في المئة أيدوها. سياسة الحكومة إزاء سوريا أيدها 34 في المئة فقط في حين عارضها 56 في المئة، علماً أن نسبة المؤيدين كانت 44 في المئة في العام 2012.
حين التقيته بصحبة الأستاذ أحمد بهجت رحمه الله في منتصف تسعينيات القرن الماضي كان أردوغان قد انتخب رئيساً لبلدية اسطنبول، وما قاله آنذاك انه يعرف الشعب التركي أكثر من أي سياسي آخر في البلد. منذ كان يبيع البطيخ والسميط في شوارع المدينة ليعول أسرته الفقيرة. وقد أمضى عشر سنوات لاعباً لكرة القدم في شوارعها ونواديها الصغيرة، وبعدها انخرط في الجناح الشبابي لحزب «السلامة الوطني» بإحدى البلديات الفقيرة. وهي خلفية مكنته من ان يعيش همَّ الناس وأحلامهم في أدق تفاصيلها. وكانت معرفته تلك وراء النجاح الذي أحرزه في رئاسته لبلدية اسطنبول، حين انتشلها من التخلف والديون التي غرقت فيها، وأصبحت أبرز بلدية في أوروبا وعاصمة الثقافة الأوروبية.
لأن انتخابات البلديات هذا العام كانت مصيرية بالنسبة لأردوغان وحزبه فقد حشدت الأحزاب الرئيسية لها حشودها. وكانت الملاحظة الأبرز أن حملة حزب «العدالة والتنمية» ركزت على الإنجازات التي تحققت خلال العقد الأخير، في حين ان الأحزاب المنافسة ركزت على نقائص تلك المرحلة ومثالبها. إن شئت فقل إن حزب أردوغان ظل يتحدث عن مشروعه الذي نفذه على أرض الواقع. من شهادات «صندوق النقد» و«البنك الدولي» التي ذكرت ان الاقتصاد زاد مئة في المئة، إلى ارتفاع دخل الفرد من 4 آلاف إلى 11 ألفاً في السنة، الأمر الذي حسّن من معيشة الفقراء والطبقة الوسطى، إضافة إلى مشروعات الإعمار التي شملت الولايات النائية بوجه أخص.
(3)
حين جرت انتخابات البلديات في 81 ولاية يوم 30 آذار لم تكن النتائج مفاجئة، إذ حصل حزب العدالة الحاكم على 45,5 في المئة من الأصوات، بزيادة 7 في المئة على ما حققه في انتخابات البلديات العام 2009 التي صوت له فيها 38,8 في المئة. أما أقوى المنافسين (حزب الشعب الجمهوري) فقد حصل على 27,8 في المئة من الأصوات. وعلى هامش النتائج برزت الملاحظات التالية:
ـ اعتبر تصويت الأغلبية لمصلحة أردوغان وحزبه للمرة السادسة خلال عشر سنوات بمثابة تفويض يشجعه ويحثه على الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية، وهو تفويض له شرعيته يختلف كثيرا عما يتداوله البعض في بلادنا. أعني انه لم يكن مفتعلا أو مصنوعاً، وانما كان تلقائياً ومعتمداً على التصويت في انتخابات حرة لا يشك أحد في نزاهتها.
ـ كان واضحاً ان الحملات التي تحدثت عن الفساد في السلطة وتلك التي خوفت الناس من سياسة أردوغان وقراراته، خصوصا بعد تدخل الحكومة لإغلاق موقعي «تويتر» و«يوتيوب» (وهي من الأخطاء التي حسبت عليه)، ولجوئها قبل ذلك إلى فض تظاهرات حي «تقسيم». هذا كله لم يؤثر كثيراً على تأييد الأغلبية لحزبه، وبدا واضحاً ان الناس صوتوا لمصلحة ما تحقق لهم من إنجازات وما قدم إليهم من خدمات حسّنت من معيشتهم.
ـ كشفت الانتخابات عن مدى الانفصال بين النخبة السياسية وبين المجتمع، وبدا واضحاً أن النخب التي ملأت الفضاء ضجيجاً طوال الأشهر الماضية من خلال وسائل الإعلام، لا تعبر عن نبض الشارع وأشواق الناس الحقيقية. بالتالي فإن الذين تابعوا المشهد الانتخابي من خلال وسائل الإعلام تلقوا الرسالة الغلط، التي كذبتها نتائج التصويت حين وضعت كل حزب أو فصيل سياسي في حجمه الطبيعي.
ـ من مفارقات المشهد أن القوى السياسية المتناقضة والمتعاركة تاريخياً ائتلفت في ما بينها ونسيت صراعاتها لمواجهة حزب العدالة والتنمية، فحزب «الشعب الجمهوري» الذي ضم شرائح العلمانيين واليساريين تحالف مع حزب «الحركة القومية» ذي الميول اليمينية المتطرفة، وبين الاثنين ما صنع الحداد. وتلاقى معهما في الموقف أنصار فتح الله غولين القيادي الإسلامي الغامض الذي يعيش في الولايات المتحدة ويعتبر جماعته خارج السياسة. هؤلاء اجتمعوا لإسقاط حزب أردوغان أو إضعافه، وهو ما أضعف الثقة بهم حتى بين بعض أنصارهم الذين أدركوا أن قيادات تلك الأحزاب تخلت عن مواقفها المبدئية في المعركة الانتخابية. إلى جانب ذلك فإنهم لم يقدموا مشروعاً بديلا وإنما اعتبروا ان إسقاط حزب «العدالة» هو مشروعهم وغاية مرادهم. ومن نتائج ذلك ان «حزب الشعب» خسر الانتخابات في ثلاث بلديات كانت تعد معاقل له، في مقدمتها بلدية انطاليا.
ـ استفاد الأكراد من أجواء سعي حزب «العدالة والتنمية» لحل مشكلاتهم وحقق حزبهم «السلام والديموقراطية» فوزاً معتبراً في الأناضول. حين فازوا في 13 بلدية، بينها 6 بلديات كبرى. أما حزب «السعادة الإسلامي» الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان فقد تراجعت أصواته، إذ في حين انه حصد خمسة في المئة من الأصوات في الانتخابات السابقة فإنه لم يحصد أكثر من 1 في المئة من الأصوات هذه المرة، وكان السبب الرئيسي لذلك التراجع ان الحزب كان أقرب إلى خصوم حزب «العدالة والتنمية» في الانتخابات.
(4)
أعرب الأميركيون عن «خيبة أملهم» في نتائج الانتخابات المحلية في تركيا. وأبرزت «الأهرام» هذه الإشارة نقلا عن مراسلها في أنقرة، الذي ذكر أن الرئيس الأميركي لم يهنئ أردوغان على النتيجة، كما ان سفيره تجاهله، وكان السفير الأميركي قد صرح في وقت سابق تعليقاً على قضايا الفساد التي جرى تسريبها بأن الحكومة التركية تجاهلت نصائح واشنطن «والآن تتابع انهيار الامبراطورية». خيبة الأمل هذه ترددت أصداؤها في إسرائيل، حيث ذكرت الإذاعة العبرية يوم السبت 29/3 أن نتنياهو رئيس الوزراء أكثر القلقين من نتائج الانتخابات التركية وانه «يتطلع لفشل أردوغان وانتهاء حقبته». وذكرت صحيفة «إسرائيل اليوم» في عدد 30/6 على لسان المستشرق أ.بالاو الذي يرأس قسم الدراسات الشرقية في جامعة «ارئيل» ان فوز أردوغان يمثل خطورة على إسرائيل، خصوصاً ان أزمة القرم عززت مكانة تركيا الاستراتيجية لدى الغرب والولايات المتحدة بوجه أخص. ذلك أن تركيا تتحكم في الدخول والخروج من البحر الأسود. ومن ثم فإنها أصبحت الدولة الوحيدة التي بإمكانها التحكم في قدرة الروس على الوصول للبحر الأبيض المتوسط. وبسبب تلك الأهمية الإضافية فإن واشنطن لن يكون بمقدورها إجبار أردوغان على تغيير سلوكه إزاء إسرائيل.
هذه الخلفية قصدت الإشارة إليها أملا في ان ينبهنا ذلك إلى ان الموقف المصري والعربي عموماً ينبغي في الشأن التركي ان يصطف بعيداً عن مربع الولايات المتحدة وإسرائيل، على الأقل من وجهة النظر الإستراتيجية. أدري أن هناك ما يعكر صفو العلاقات بين القاهرة وأنقرة في الوقت الراهن. ولكنني أدعو إلى التفرقة بين خلافات مرحلية بين حكومتي البلدين أرجو ألا تستمر طويلا، وبين تحويل تلك الخلافات إلى تعارض في المصالح الإستراتيجية.

السابق
مصر تتسلّم قيادياً إخوانياً ضبط أثناء تسلًله لسواحل لبنان
التالي
اقفال المدارس الرسمية في صور