حروب الآخرين في سوريا

منذ ثلاث سنوات والحرب سجال في سوريا من مدينة إلى مدينة أخرى. لا «محافظة» واحدة في حالة استقرار، أو في حياة طبيعية، ولا سيما في الأرياف. ضواحي العاصمة وريفها في حالة مواجهات متكررة. فُتحت هذا الأسبوع معركة الساحل البحري الغربي الذي كان الأكثر هدوءاً لاعتبارات عدة معروفة. لا جدال في أن طبيعة الأزمة تغيّرت منذ السنة الأولى. عسكرة النزاع، التدخلات الخارجية المباشرة، فشل المعارضة في تكوين جسم سياسي ومن ثم عسكري له شخصية وطنية، كل ذلك أدى إلى مشهد مختلف. تعيش سوريا شكلاً من أشكال الحروب الأهلية على تقاطع مع حروب إقليمية لها تعبيرات عسكرية ميدانية. أصبح الحديث عن «النظام» كما «المعارضة» لا يطابق واقع الحال. لم يعد خافياً وجود قوى عسكرية خارجية على ضفتي النزاع. أما الظاهرة الأكثر أهمية فهي أشكال الصراع والخطط الحربية التي سلكت باكراً من خلال المكوّنات الديموغرافية والجغرافية في تقاطع مع بيئات طائفية أو مع بيئات حدودية. طرفا الصراع شاركا في تحديد هذه الجبهات ومصادر تأثيرها. حلب مدينة لها هوية داخلية وعلاقة خاصة بجوارها الخارجي التركي. الرقة والحسكة ودير الزور والحدود العراقية. اللاذقية وطرطوس بهوية داخلية وخارجية. حوران في سهلها وجبلها، وكذلك حمص ودمشق والظهير اللبناني. المسيحيون ومنهم الأرمن (طائفة الانتشار الواسع) دفعوا ثمن انعدام الجغرافيا السياسية لديهم. الدروز والإسماعيليون حيّدوا مناطقهم الجغرافية وكذلك فعل الأكراد.
التوسع التاريخي العلوي خارج ساحل اللاذقية وطرطوس كان في بداية المواجهة، لا سيما في حمص ومن ثم في أحياء حلب وحماه. فتح معركة اللاذقية انطلاقاً من «كسب» هو جواب «المعارضة» على نجاح «النظام» في تكوين كتلة متماسكة جغرافية وبشرية من دمشق حتى اللاذقية بعد معارك حمص ويبرود وبعض الغوطة. ما يحصل من معارك اليوم قد يكون له صفة الضغوط المتبادلة ومحاولة تشتيت القوى، لكننا أمام تجارب الحروب الأهلية نعرف أن هذا المسار هو استنزاف طويل تفتيتي للنسيج الوطني والاجتماعي، وأنه يستحيل جمع أو التئام هذا النسيج من خلال أي مسار عسكري. الأكثر إيلاماً في الأزمة السورية هو أنها اجتازت سنتها الثالثة تحت شعارات الحسم المتقابل، وأن انهيار الكيان السوري بات مألوفاً أو معتاداً ولا يصدمنا بالقدر الكافي بالمعنى الوطني والإنساني.
فما معنى أن نكون أمام مرحلة جديدة من هذه الحرب حين يكون فصلها الجديد منطقة اللاذقية، أي «تحرير» منطقة من سكانها كما «حرّر» النظام مناطق أخرى من سكانها، بقطع النظر عن النتائج الميدانية؟
سوريا اليوم ضحية تعهير السياسة في الداخل والخارج حيث لا تتحكّم في هذه الأزمة أية مصالح وطنية أو شعبية وحيث تمّ تهجير ثلث الشعب السوري حتى الآن وتدمير المقوّمات المدنية لهذا الشعب. أمام هذه الكارثة المتمادية التي لا أفق سياسي لها إلا أفق التسويات الخارجية لأطراف تديرها مصالحها، لا قيمة ولا معنى ولا جدوى من أي مساهمة في لعبة الدم هذه بدعم «المعارضة» أو بدعم «النظام». ومن أسف أننا لا نستطيع التوجه إلى هذين الطرفين «الافتراضيين» أي «المعارضة» و«النظام». هذان الطرفان «بيدقان» في يد الخارج. كشفت الأزمة السورية عمق وهول المشكلات الدولية وانحطام قيم المجتمع الدولي.
لا القطبية الأحادية ولا التعددية ولا أي شيء من هذا القبيل يخضع لمعايير وقواعد وضوابط تأخذ بنظر الاعتبار حقوق الشعوب وحرياتها. أما الوضع الإقليمي فهو أكثر بشاعة حين تتحوّل «نزاعات الأخوة» أو الشراكة في المصير إلى استخدام قضايا الشعوب أدوات رقمية لمواجهة الآخرين. ربما يعرف اللاعبون الكبار والمتلاعبون بالمصائر البشرية أن نقد التاريخ لهم، أو حكمه عليهم، لا يغيّر شيئاً كما حصل تجاه محارق ومجازر وكوارث إنسانية أخرى. هم يستخدمون سوريا ولا يخدمون أي طرف فيها.
لعل المطلوب الآن أن ننشئ رأياً عاماً لا تشغله مسألة «الإنجازات الداخلية المتبادلة» التي لا طائل منها اليوم وغداً، بل أن يتوجه إلى القوى الإقليمية والدولية، كل القوى المعنية، لوقف هذه المأساة. سوريا تحتاج إلى مؤتمر دولي وليس إلى تفاوض بين «النظام والمعارضة». خسرت سوريا سيادتها في هذه الحرب وعلينا الاعتراف بضرورة إنقاذ كيانها البشري والمادي بعيداً عن كل الادعاءات الأخرى. إنها «حروب الآخرين» في سوريا كما كانت في لبنان بعدما فاض تأييد ودعم كل الخارج لأطراف النزاع الداخلي.

السابق
عيناثا لم تقل كلمتها.. ونسف الثقافة يلغي المقاومة
التالي
حزب الله وانفتاح الأبواب مع المستقبل: أمر لا نضخّم أبعاده!