رئاسات أحلام وكوابيس

لا ينتج نظامنا السياسي، خاصة بعد الطائف، «رئيساً قوياً للجمهورية» بالمواصفات التي يقيس عليها المرشحون الأقوياء في طائفتهم. مشروع إحياء «الترويكا» الذي فرضته الوصاية السورية لا أساس له الآن. ومشروع إحياء أولوية المارونية السياسية انتهى مع انهيار أو انحسار المارونية السياسية نفسها نتيجة الحرب. زعماء المارونية السياسية منذ الاستقلال جاؤوا إلى الرئاسة أقوياء برصيد خارجي وليس لأنهم زعماء على المستوى الوطني.
من الصعب كثيراً أن يأتي البرلمان الحالي برئيس «شريك مضارب». ومن الأصعب أن ينتخب أي رئيس على المستوى الشعبي لو تغيّر نظام الانتخاب لديه أرجحية فعلية، سلطة أو شعبية، كما تتصور المارونية السياسية. أزمة شراكة المسيحية السياسية في النظام تحتاج إلى حلول من نوع آخر، ربما بتغيير النظام وربما بتغيير تكوين القوى الحزبية.
ولا نظن أن النماذج المقدّمة والمصنّفة في خانة الأقوياء تلقى ترحيباً في أوساط اللبنانيين عموماً وزعماء الطوائف الآخرين كذلك. يصلح هؤلاء أنداداً للآخرين ولا يصلحون للموقع الأول الذي كان وما يزال له طابعه الخاص من حيث رمزيته ومن حيث شراكته في السلطة التنفيذية.
هذه الصراحة المزعجة لأصحاب الشأن لا تقتصر على المرشحين أنفسهم بتجاربهم المريرة والفاشلة أصلاً، بل يجب أن تصل إلى كل المروّجين لبضاعة طائفية في سوق طائفي يعج بالمنافسة. قوة المسيحيين أن يلعبوا دوراً مميزاً إذا فهموا هذا الدور وأتقنوه لا أن ينافسوا على سلطة في نظام تقتسمها طائفتان لهما أنياب قوية وطموحات شرهة.
ومن أسف لم يعد الدور المدني والتمديني للمسيحيين يترجم في دورهم وتمثيلهم السياسي، ولو أن ذلك لم يسبقهم أحد إليه ولا ينافسهم أحد فيه اليوم. فالإسلام السياسي يعيش محنة مشروعه السلطوي بغير مقوّمات مدنية أو تمدينية. هناك تناقض كبير بين ثقافة المسيحيين المدنية وبين مشروعهم السياسي الوطني أو القومي. لعلهم بذلك كما عبّر أحد زعمائهم لحظة تأزّّم هذه الثنائية بالقول: «نحن قدِّيسو هذا الشرق وشياطينه». لكن القداسة والشيطنة تعمّ ثقافة المنطقة كلها، تتعايش وتتكامل على نحو غير مسبوق.
ليس شأننا أن نجد حلولاً لمشكلات الطوائف بما هي مشاريع طائفية، بل بما هي مكوّنات لمجتمع تعيش فيه هذه المكوّنات «المختلفة» وكيف لها أن تنظم وتدير هذا الخلاف على المستوى السياسي. وليس بالضرورة أن تختار هذه الجماعات الحلول الصحيحة والمناسبة حتى لو جرّبت خيارات فاشلة وأعادت تكرار نفسها كما هو حالنا في لبنان مع كل الجماعات. والأدهى من ذلك أن العالم من حولنا قدّم ويقدّم لنا نماذج كثيرة للخروج من حالة «البربرية» التي انحدرنا إليها في العالم العربي، لكن الأساطير ما زالت تستدعي هذه الأضحيات التي جاوزت نتائج القمع إلى مستوى المحارق البشرية وتحطيم المنجزات المدنية.
لا يعفينا ذلك كله من الدعوة للحفاظ على الجمهوريات لا على الألقاب ولا على الرؤساء، ولا على المسترئسين الذين ينتجهم العالم العربي من ثقافة «المنتدبين» أو حتى «المرسلين» لمهمات تاريخية غالباً ما تنتهي بمعاقبة الشعوب لأن حاجاتها تختلف عن الزعماء الملهمين. ومن «محاسن الضدّية» أن نكون في لبنان متنوّعين بحيث لا تؤكل رؤوسنا بطموحات الزعامات الكبرى في طوائفها والصغيرة على مساحة البلد. فلا نرى مرجعية إلا ولخطابها حدود جغرافية وديموغرافية لا يتعداها حتى لو استخدم مكبّرات الصوت. يتعثّر «الخطاب الوطني» عندنا لأن الوطنية ليست مساحة جغرافية، على أهميتها، بل مساحة إنسانية لم تنتج لها بعد جسمها السياسي.
نفترض في كل ما نفكر ونقول أن الناس والسلالات البشرية هي المعنية بأي مجتمع سياسي وليس الجماد والحيوات غير الناطقة العاقلة. ولا ضير أن نفكّر بهؤلاء البشر بهوياتهم العرقية والدينية والثقافية والاجتماعية، لكن أن نفكّر لأجلهم كبشر لا أن نختصرهم ونختزلهم بصورة أو بمنظومة من التوصيفات الهادفة إلى إخراجهم من دائرة التفاعل الإنساني. «فلبنان الذي نريد» كما صار يسأل عنه الآخرون دائماً وكأنهم لا يجوز أن يريدوه هم، هو في نهاية المطاف حصيلة «العيش المشترك» كما يقال، أو حصيلة العيش المسالم أولاً ليشترك في «الصيغة»، لا العيش المتناحر ليشترك في التدمير الذاتي الذي يتكرّر في تخيّلات «القدّيسين والشياطين» على نفس المستوى من المسؤولية التاريخية.
دعونا نبحث عن حل للحفاظ على الجمهورية بمعناها الأول وهو سيادة الجمهور والشعب وشكلها الديموقراطي السلمي وإدارتها للاختلاف المتفق عليه، لا أن ننساق وراء أوهام البطل المنقذ وهو لا يفعل إلا أن يسد فراغاً في كرسي فارغ.

السابق
القمة الأميركية – السعودية تعالج الملفات هل تتناول المواصفات
التالي
إشكالات القوات وحزب الله لم تنته في هوفلان