يهود الشام يحنون إلى دمشق وبيروت

يهود سوريا

تعتبر جالية يهود سوريا ولبنان إحدى الجاليات الأكبر والأهمّ في الشرق الأوسط، ماذا تبقّى منها؟ وما مصير أولئك الذين بقوا في موطنهم؟

في قلب بيروت، غير بعيد عن مكتب رئيس الحكومة اللبناني، تمام سلام، يقع الكنيس الكبير “نجمة إبراهيم”. الحالة المادية للكنيس صعبة، ولكن لا يزال بالإمكان مشاهدة نجمة داود تزيّن كل عمود في المبنى. كان يرمز المكان إلى عظمة الجالية اليهودية في المدينة. وهو اليوم معرّض للرياح، ليس له سقف، وهو يمثّل حالة من تبقّوا من الجالية اليهودية الذين لا يزالوا في لبنان.

وقد لاقت أدلّة على قيام صلاة يهودية مقلّصة جدًّا بمناسبة عيد الفصح الماضي (2013) ترحيبًا في إسرائيل. احتفل سبعة أفراد يهود من بين عدد قليل ممن تبقى من اليهود في سوريا بذكرى العيد الماضي في الكنيس الصغير الذي تبقّى في مدينة دمشق بسرّية شديدة.

جالية حلب ودمشق

لقد عاش اليهود في سوريا منذ الفترة التوراتية. وقد ارتفعت أعداد الجالية اليهودية بشكل ملحوظ بعد طردهم من إسبانيا عام 1492. وعلى مرّ الأجيال، وجدت الجاليات اليهودية الأكبر مكان سكناها في المدن الكبرى دمشق وحلب، بينما كانت هناك أيضًا جاليات أصغر على الحدود التركية السورية، في القامشلي. عام 1943، بلغ تعداد الجالية اليهودية في سوريا 30,000 شخص. وقد تقسّمت هذه الجالية بشكل أساسيّ بين حلب، التي عاش فيها 17,000 يهودي، ودمشق، التي عاش فيها نحو 11,000 يهودي.

في سوريا أيضًا، كما في بلدان إسلامية أخرى عاش اليهود بصفة “ذمّيّ” حتى العصر الحديث. عام 1840 حدثت فرية الدم التي سمّيت “فرية دمشق” (في أعقاب اختفاء راهب نصراني وخادمه المسلم وقد اتهمت شخصيات رئيسية من الجالية اليهودية في دمشق بخطفهما وقتلهما من أجل استخدام دمائهما في خبز المصّة) إبّان الحكم العثماني. وقد أدّت الفرية إلى أعمال شغب واعتداءات جسديّة على اليهود من قبل الرعاع. وقد توقّفت أعمال الشغب هذه فقط حين أصدر العثمانيّون مرسومًا إمبراطوريّا برّأ يهود دمشق من الفرية.‎

وبعد الحرب العالمية الأولى (1920) بدأ الانتداب الفرنسي على سوريا. وخلال الصراعات حول تشكيل سوريا، اندلعت عام 1925 ثورة الدروز ضدّ الفرنسيين. وخلال تلك الثورة، تمّت مهاجمة الحيّ اليهودي في دمشق. قُتل الكثير من اليهود، وجرح العشرات، ونُهبت الكثير من المحلات التجارية والمنازل. وقد حدثت الهجمات ضدّ اليهود أيضًا على خلفية الأحداث في أرض إسرائيل في إطار الصراع اليهودي-العربي. عام 1936، بالتوازي مع اندلاع الثورة العربية في فلسطين، قامت أعمال شغب ضدّ يهود دمشق الذين اتّهموا بأنّهم داعمون للصهيونية.

عام 1948 تفاقمت أوضاع اليهود. وبعد وقت قصير من إقامة دولة إسرائيل، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أنّه: “في سوريا، يتم اتّخاذ سياسات اقتصادية للتمييز ضدّ اليهود. في الواقع جميع عمال الخدمة العامة من اليهود الذي تم تشغيلهم من قبل حكومة سوريا، تمّت إقالتهم. يمكننا القول بأنّه تم إلغاء حرية التنقّل. أنشئت مراكز خاصّة للحراسة يتمثّل كلّ دورها في رصد تحرّكات اليهود”.

وخلال سنوات الثلاثينات (حتى اندلاع الثورة العربية الكبرى) حدث ارتفاع في أعداد المهاجرين من سوريا بشكل أساسيّ بسبب الأزمة الاقتصادية في سوريا. خلال سنوات الثلاثينات هاجر نحو 3,100 يهوديّ، والذين سكنوا في تل أبيب وضواحيها وأقاموا جاليات منظّمة.
عام 1945 نظّم الموساد هجرة 1,400 طفل من سوريا إلى مستوطنات الشمال.

في السنوات بين 1945-1947 لم تتوقف الهجرة من سوريا ولكنّها ضعفت. عام 1946 بدأ يهود سوريا ولبنان في تنظيم هجرتهم غير الشرعية ووصل أكثر من ألف منهم إلى البلاد بقواهم الذاتية بين السنوات 1946-1947، بشكل خاصّ في أعقاب اضطرابات عام 1947.‎ ‎

بعد إقامة دولة إسرائيل أجبر معظم يهود سوريا على الهجرة، ومن بين 30,000 يهودي عاشوا فيها قبل الهجرة الجماعية بقي نحو 5,000 فقط. ومن بين اليهود الذين غادروا قدم إلى إسرائيل نحو 1700 شخص، والبقية هاجروا إلى الولايات المتحدة وأوروبا.

يهود لبنان

عاش اليهود في لبنان منذ العصور القديمة. منذ القرن الأول للميلاد دعم الملك هيرودس الكبير الجالية اليهودية في بيروت ومنذ ذلك الحين استقرّ اليهود على شاطئ بحر لبنان. عام 1492 ازداد عدد السكّان في أعقاب طرد يهود إسبانيا، ولكن مع ذلك كانت الجالية اليهودية لا تزال من الجاليات اليهودية الصغيرة في البلدان العربية.‎ ‎

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين انتقل الكثير من اليهود إلى المدن الساحلية، وبشكل أساسي إلى بيروت. عام 1901 بلغ عدد أفراد الجالية في بيروت نحو 3500 شخص. وخلال النصف الأول من القرن العشرين توسّعت الجالية اليهودية بشكل كبير بفضل الهجرة من اليونان، تركيا وفي وقت لاحق من سوريا والعراق أيضًا. عام 1948، كان في لبنان نحو 7000 يهودي، حيث تركّزوا في بيروت والقرى المجاورة لجبل لبنان.

كانت أوضاع اليهود في لبنان جيّدة نسبيّا بالمقارنة مع البلدان المسلمة في الشرق الأوسط، بفضل الأقلية المسلمة في البلاد وعلاقات اليهود مع أبناء الطوائف غير المسلمة. خلال القرن التاسع عشر، حافظ يهود جبل لبنان على علاقة مع الدروز وقدموا لهم الحماية من المجرمين. بالمقابل، حافظ يهود بيروت على علاقات مع المسيحيين المارونيين. وقد أنشأ اليهود في بيروت ميليشيا مكوّنة من مقاتلين مسيحيين ومموّلة من قبل اليهود، وعملت بشكل رئيسي في الحيّ اليهودي في بيروت وحمت اليهود من الهجمات. وقد أدّى قيام الانتداب الفرنسي في لبنان إلى تحسّن كبير في حالة اليهود. انضمّ اليهود لحزب الكتائب المسيحية وشاركوا في تأسيس لبنان الكبير عام 1920. ولكنّ وضعهم ازداد سوءًا حين نال لبنان استقلاله عام 1945 وقُتل نحو 12 يهوديًا في مدينة طرابلس.‎

وبين السنوات 1948-1950 كانت الحركة قرب الحدود بين لبنان ودولة إسرائيل الفتيّة ممنوعة في أعقاب الحرب الجارية، وهو الأمر الذي شكّل صعوبة في الانتقال بين الدولتين. بين السنوات 1949-1950 ارتفع عدد محاولات تهريب اليهود من لبنان. جدّد الموساد العلاقة مع المهرّبين العرب، وأقام علاقة أيضًا مع شولا كيشك-كوهين، والتي عملت جاهدة في لبنان لدعم الهجرة. وقد تم تنفيذ الهجرة غالبًا عن طريق البحر، في قوارب يتراوح عدد المسافرين بها بين عدد قليل من الأفراد حتى 30 فردًا. كانت العلاقة مع الجانب اللبناني قائمة بواسطة مبعوثين أرسلوا رسائل من المطلّة في أراضي دولة إسرائيل إلى لبنان وسوريا. وكانت هناك أيضًا مجموعات منظّمة وخاصّة قامت بتهريب اليهود عن طريق البرّ بمساعدة مهرّبين عرب، قدموا إلى المطلّة وتم استيعابهم هناك من قبل رجال الوكالة أو الموساد. وابتداء من عام 1958 تزايدت الهجرة من لبنان في أعقاب قلّة المخاطر وانخفاض تكاليف الهجرة من هناك. كان ممثلو الوكالة قادرين على العمل من بيروت بشكل سهل نسبيّا، واستطاع كذلك اليهود من مواطني لبنان الحصول على جوازات سفر وتأشيرات دخول ومغادرة لبنان دون صعوبة كبيرة.

رغم الهجرة يشعرون بالحنين إلى بلاد المنشأ

رغم أنّ معظم يهود سوريا في أيامنا هذه، لم يروا في حياتهم موطنهم أبدًا، فلا يزالوا يذكرون جذورهم ويحافظون على تقاليدهم.‎ ‎إنّ فخر يهود سوريا وإصرارهم على الحفاظ على ثقافتهم تعكس تقريبًا بيتهم الوراثيّ في سوريا. تشعر الجالية بالريبة من الغرباء وأحيانًا توصف بأنّها مؤطّرة. داخل الجالية نفسها هناك منافسة رئيسية بين يهود دمشق ويهود حلب، حيث يدّعي كلّ طرف أنّه أكثر قدمًا. ووفقًا لمقال نشر مؤخرًا في موقع Middle East Online، تميل العائلات في وجبات الأعياد والسبت بتناول أطعمة سورية والكثير من يهود سوريا يستمتعون بالموسيقى والرقصات العربية. أيضًا، فقد حافظ معظم اليهود الذين هاجروا من البلاد على لغتهم العربية، أحيانًا يتحدّث أولادهم بها بشكل جيّد.‎

يأتي حنين غير متوقّع من الشوارع الفارغة في الأحياء اليهودية بدمشق وحلب. ويحكي العرب المحليّون، الذين اشتروا منازل اليهود الذين غادروا وكذلك محلاتهم التجارية، بفخر اليوم عن علاقات صداقة رائعة كانت تربطهم بهم، قبل الهجرة الجماعية عام 1992.

وعلى الرغم من سمعتهم، التي تصوّرهم على أنّهم منعزلون، أصبح بعض اليهود السوريين من المشاهير. والد مغنية البوب، باولا عبدول، وُلد في سوريا ونشأ في البرازيل، وأيضًا عائلة والدة الفنّان الكوميدي، جيري ساينفلد، من سوريا. ربّما كان ذلك دمجًا بين الفكاهة اليهودية والسمات العربية، مثل وصول ضيوف غير متوقّعين إلى المنزل، والأمر الذي جعل ساينفلد أحد أشهر نجوم الكوميديا في الولايات المتحدة وحتى في سوريا نفسها.

على الرغم من الالتزام القويّ لليهود السوريّين تجاه تقاليدهم، فلا يزال بعضهم يخشى من فقدان علاقته مع سوريا ومع اللغة العربية. معظم اليهود السوريين الذين وُلدوا خارج سوريا لم يزوروا في حياتهم موطنهم، وفي هذه الأيام فإن القليل من أبناء هذه الجالية يعلّم أبناءه اللغة العربية.

رغم ذلك، يحاول يهود سوريا في إسرائيل إعادة جزء من العادات والأذواق لذاكرتهم من حلب ودمشق. وبقي الطعام هو العلاقة القوية بالنسبة لتلك الجاليات مع وطنهم. وتعتبر المأكولات المحشية من العلامات الأكثر ارتباطا بالأكلات السورية (كما هو الأمر بالنسبة للأكلات اللبنانية والفلسطينية)، حيث إنّ القاعدة الرئيسية إزاءها هي: “كل شيء قابل للحشو”؛ الكوسا، الباذنجان، البصل، الطماطم، البطاطا وغيرها. أنواع مثل الكبّة، التبّولة، مدايس (قطع كوسا محشوة باللحم ومطبوخة بالصلصة)، مجدّرة والمعمول، باتت شيئًا من المطبخ السوري التقليدي، والوجبات متعددة المشتركين هي ملكية هدفها الرئيسي الاستمتاع بتناول الطعام وهدفها الثانوي إظهار القدرة على الطبخ أمام الضيوف والتي تتمتّع بها بنات العائلة.

وبخصوص الجالية اليهودية التي أصلها من لبنان فالقليل جدّا هو ما نستطيع أن نقوله عنها لأنّها تضاءلت بشكل ملحوظ في أعقاب سلسلة من الأحداث المأساوية التي حلّت بالجالية في بيروت. الحرب الأهلية الدامية في لبنان، وحقيقة كون اليهود أقلية مقابل أقليات عرقية ودينية أخرى كثيرة في لبنان (يمكن عدّ 17 من تلك الأقليّات)، العلاقات العدائية والحرب التي كانت بين إسرائيل ولبنان منذ إقامة دولة إسرائيل وحتى اليوم، حرب حزب الله ضدّ إسرائيل وتشتّت الجالية في دول عديدة حول العالم، أدّى كلّ ذلك إلى اختفاء شبه كامل للجالية اليهودية اللبنانية.

في العام 2007، نُشرت وثائق نادرة كان قد جلبها مدوّن مسلم من الولايات المتحدة، مايكل بيضون، والذي زار بيروت؛ وقد عرض صورة صعبة. يعيش في لبنان اليوم بضع عشرات من اليهود فقط. وهم يحافظون على السرّية خوفًا من أن يعرّضهم الكشف عنهم للضرر في ظلّ الوضع الراهن في لبنان. ويغيب ممثّلو الجالية عن الاحتفالات الرسمية أو الأحداث العامة، وكل محاولة للوصول إليهم تصطدم بالحواجز.

ويمكننا أن نستنتج من تقارير في الصحافة العربية أنّ هناك القليل من اليهود فقط في لبنان، ومعظمهم كبار جدّا في السنّ. كثير منهم متزوّجون لغير اليهود. في إسرائيل أيضًا عدد يهود لبنان لا يكاد يُذكر وتقريبًا لا تقام أيّة أنشطة ثقافية أو اجتماعية لأبناء الجالية.

السابق
أردوغان يهنىء الجيش التركي على إسقاط طائرة حربية سورية
التالي
اسرائيل تتهم حزب الله بتنظيم شبكة لنشر المخدرات على حدودها مع لبنان