إلى شاهد أمي

عيد الأم

لا ذكريات بيننا سوى هذا المشهد: انأ أرتدي ثياب العيد، أترجّل من السيارة، يمسك أبي بيدي الصغيرة وجدتي تمشي إلى جانبنا، يقف أبي عند مدخل الباشورة، يسحب من جيبه بعض الأوراق النقدية ويعطيها للبائع بدلا عن “باقة ريحان”، أصعد السلالم وأنا أردّد مع المرددين “تكبيرة العيد”، أمشي على التراب حتى أصل وأنا فرحة للقائك… أقف أمام “الشاهد”، أسمع والدي يقول لي: “انشدي الاستظهار الفرنسي الذي تعلمته في المدرسة هذا الأسبوع”… أحبس أنفاسي ثم أبدأ بالاستظهار، أهزّ يديّ الصغيرتين يمنة ويسرة، أرفع صوتي وأخفضه كما يقتضي أسلوب الاستظهار ومعناه. تنتهي القصيدة، يفرح والدي وتجهش جدتي بالبكاء… يقول لي أبي أن أخبرك عن مدرستي، أروي لك عن صفي الصغير ومدرستي الصغيرة… وبعد أن تنتهي كل أخباري، يطلب مني أبي أن أقرأ الفاتحة ثم نودعك… نتركك هناك تحت التراب ونمضي.
أمي أعيد هذا المشهد في ذهني آلاف المرات، وفي كلّ مرة أحاول أن أتذكر تفصيلاً جديداً ولكنني ما أفلحت يوماً.
حينما كنتُ طفلة، كان أترابي يؤكدون لي أنني إذا قلت اسم أحدهم ورددّته في سرّي عشرات المرات سأراه في حلمي… أذكر يا أمي أنني كنت أصلي باسمك كل يوم، أردده بكل اللغات التي أعرفها، ولكنني أيضاً ما أفلحت.
كيف أقول ما أفلحت وأنا رأيتك “مرة ونصف المرة” تعبرين في أحلامي… أذكر، يا أمي، أنني رأيتك ذات حلم، تعبرين الرصيف… ليلتها تواجهنا أنا وانتِ على الرصيف نفسه، صعقتُ أنني رأيتُ فتاة تكبرني بأعوام ولكنها تشبهني إلى حد التطابق… صعقتُ من رؤية نفسي – نفسك، حتى صحوت من حلمي مفترضة ان تلك المرأة التي وقفت قبالتي هي أنتِ… أمي أنا افترضت إلى حد الإيمان: إنها أنت.
وأذكر إنني رأيتك ذات حلم تقفين لكيّ قميصي الأبيض… لم أكن أملك قميصاً أبيض ولكنني افترضته لي. ليلتها جلست وأنا مذهولة كيف تهتمّين بياقة قميصي، بعدما استيقظتُ، بحثت في كلّ كتب تفسير الأحلام، التي لا أؤمن بها، عن تفسير لهذا الحلم لأنني كنتُ متيّقنة حينها أنها “كلمة سرّ” بيني وبينك.
صحيح أنني لم أجد في كل التفسيرات التي انكببتُ على قراءتها كلمة “كيّ” غير إني أقنعت نفسي أن أستبدلها بتفسير حلم “إعطاء ثوب جديد”، وكم فرحت أن إعطائي قميصاً جديداً في الحلم يعني أنك كمن أعطيتني حياتك..
ومنذ أن أعطيتني حياتك – أو افترضت ذلك – وأنا لم أعد أراكِ… أمي من قال لك إني أحتاج لحياتك؟ كنت سعيدة برؤيتك في أحلامي فلماذا وهبتني القميص الأبيض؟ لن ألومك على هذا الخطأ، لنضعه جانباً في الوقت الحالي، فلا وقت للعتاب بيننا وأصلاً لا عتب بيننا… أمي هل يمكنك إلقاء نظرة على خزانة ملابسي؟ لدي الكثير من القمصان البيضاء ذات الياقات البيضاء الملسة، ولكنني لم أجد بينها ذلك القميص الذي أعطيتني إياه ذات حلم؟ لعلّني خبأته في مكان ونسيت كعادتي! أمي لا تقلقي سأجده يوماً ما…
أمي، تفاصيل كثيرة تقلقني: كيف أقول لأحدهم أني لم أركِ إلا “مرة ونصف المرة”… أمي كيف أقول لأحدهم أنني لم أهدِك يوماً باقة زهر أو عطراً فاخراً في مناسبة ما… وما أدراني أنا أي نوع من الزهر والعطر تفضّلين؟ أظنّ أنك تفضلين العطور الممزوجة بـ “الريحان”… أليست هذه الهدية الوحيدة التي كنت أرى أبي يأتيك بها عند كلّ عيد؟
أمي إني دوماً أحلم أن أهديكِ قصيدة محمود درويش: “وأعشق عمري لأني إذا متّ أخجل من دمع أمي”… ولأن لا قدرة لي على إهدائك هذا البيت، كنت دوماً أكتفي بإهدائك: “أحن إلى خبز أمي ولمسة أمي”… فلا قهوة بيننا وكل القصائد التي كنتُ أعرفها تمجّد الأمهات الأحياء أو اللواتي متنَ للتوّ… لا حظ للأمهات اللواتي متنَ منذ زمن!
أمي كيف يصدقونني إن قلت لهم إنني أكبرك بأربعة أعوام؟ أنت ما زلت في سنّ الثانية والعشرين وأنا أتقدّم في العمر. لا تحزني هذا أفضل لك، فأنا قد أشيخ يوماً، قد يتجعّد وجهي، وأنتِ كما أنتِ وجهك يشعّ نضارة. ستمنحينني وجهاً عجوزاً مجعداً ووجهاً شاباً.
أمي هل أخبرتك يوماً أنني كنت واقفة على سطح بيت جدتي، بيتك، ورأتني إحدى قريباتك. لم أفهم يومها لماذا صعقت هذه المرأة عندما لمحتني وصارت تركض في كلّ الاتجاهات… بعدها عرفت أنه خُيّل لها أني أنّكِ.
أمي لم يكن خطأها، بل كل من عرفك يقول لي: “بتشبهيا”… أعرف يا أمي أن ضمير الغائب بـ”بتشبهيا” هو مأساتي، ولكنني أنتشي كلما سمعتُ هذه الكلمة.
أمي اعذريني إذا لم أسأل عنك يوماً. لم اجلس على طرف سرير والدي، كما كنتُ أرغب، لأستمع منه قصة حبكما، فقد اكتفيت بالصور… أمي ألم أقل لك أنني جمعتُ صوركما في ألبوم يروي حياتكما منذ طفولتكما وحتى زواجكما، ثم إنجابي، فتركت في آخر الألبوم، الذي ابتدعته، صوري من دون عائلة… ألبوم كلما قلّبته أسمعك تروين لي عنه كما لو أنك من قمتِ بإعداده.
اعذريني لأنني أحبطت أبي أكثر من مرة. أذكر أنه يوماً “حجزني في السيارة” ليسمعني أغنية كنت تحبينها، يومها اختنقت، حاولتُ فتح شبابيك السيارة من دون فائدة. لم أعد أتذكّر كيف تذرّعت أمامه أنني بحاجة للخروج – للهروب منكِ. هو لم يفهم سبب تهرّبي ولا أنا فهمت! هو ملّ الحديث عنك أمامي وأنا بقيت أسمع على جهاز “الووكمان” الخاص بي الأغنية التي أخبرني أنك تحبينها.
اعذريني إن كنت لم ألحّ على جدتي لتقص لي عن طفولتك وعن طبعك وعن دراستك… اعذريني حينما اختفيتُ من المنزل، يوم سمعت جدتي تطلب مني أن أعطيها صورتكِ المعلّقة أمامي. يومها انتظرت جدتي حتى تغفو، حملت صورتك بيديّ الصغيرتين ضممتها على صدري، بكيت ثم وضعتها في مكانها… وكأن أحداً لم يمسّها.
أمي اعذريني إن كنتُ لا أقوى على التلفّظ باسمك أمام خالي أو التذرّع بالعطش حينما أرى طيفك يقترب من شفتيه… لا أظنّ أنه تمعّن يوماً في سبب إحجامي.. ولا أنا أيضاً تمعّنتُ.
اعذريني لأنني لم أسأل كيف اخترقت الرصاصة رقبتك، لقد سمعت أحدهم يروي هذه القصة، لم أعقّب، لم أشتم القاتل جهراً، فقط اكتفيت برسم المشهد الذي يعيش في ذهني، تماماً كما تعيش الرصاصة سراً في رقبتي وأشعر وحدي بوخزتها. أنا “أموّن” الحزن في داخلي، وأسرف فيه وحدي ولا أريد شركاء. أسرّح شعره صباحاً، مثلما كان أبي يفعل، أربّت على كتفيه. أروي له قصة قبل النوم ثم أضمّه إلى صدري فربما كان يخاف من ظلام المساء.
أمي أنت لا تعرفين أني ومنذ رحيلك وأنا مصابة بداء لا أعرف اسمه، كل ما أعرفه أنني حينما أسمع أحدهم يتحدث عنك أهرب وأكتفي بالاستماع عنك من خلف الباب… أمي اعذريني إذا بقيت أكثر من خمسة عشر عاماً أمتنع عن الذهاب إليك، ولكن لم يكن لديّ الجرأة لأسأل أبي أو جدتي أو خالي عن عنوانك بالتحديد… أمي اعذريني لأني ذهبتُ وبحثتُ عن قبرك من دون أن أجده… هل تعرفين مأساة أبكم ضلّ الطريق إلى والدته ولا قدرة لديه على النطق باسمها أمام كل من يعرفها؟
ولكن ما يريحني أنني وجدتك، ولو بعد حين… بالطبع لم أسألهم، فقط وكلت “أمين” بالأمر، قلت له: “اسألهم عن “مقرها – عنوانها” من دون أن تَقولَ لهم إنني طلبتُ ذلك. قل لهم إنكَ تريدُ أن تزورها وحسب”!
أمي كيف أخبرك عن حياتي؟ يلزمني الكثير من الوقت. فكيف أحدثك عن حوالى أربعة وعشرين عاماً قضيتهم من دونك؟ أخاف أن تسقط مني التفاصيل… سأوجز لك، وأنا أكره الإيجاز معك، أنني كبرت، وأعمل في الصحافة، وأنني ارتبطت برجل أحببته… أمي أنت لا تعرفين حبيبي ولا حتى اسمه؟ صحيح… تذكرت أنني لم آتِ من الجامعة إلى المطبخ لأروي لك وأنت تقفين ملهيّة بغسل الصحون والأكواب، عن أول لقاء بيننا… وانك لم تلبسي وتتزيّني في يوم خطبتي وحتى أنك لن ترفعي فستاني حينما سأهمّ بالجلوس على الكرسي في يوم زفافي؟ ولن تضميني إلى صدرك إن غضبت من زوجي يوماً، كما تفعل كل النساء وتطلق العنان للسانها عن الرجال. فأنا لا أعرف أصلاً نبرة صوتك، قد أكون سمعته يوماً، ولكنني ما عرفتُ أنه لكِ!
أمي لن يضيرَكِ شيءٌ إن استأذنْتِ من أصدقائِكِ وجئْتِ لتمضي يوماً واحداً معي. تذرّعي لهم بأي عذر. قولي إنك مريضةٌ أو تعبةٌ أو أي شيء. أمي قولي لهم إنك اشتقتِ إليّ فسوف يصدقونك لأنهم يعلمون أنك لم تَرِينِي مذ كان عمري سنة ونصف السنة. أمي يوماً واحداً… أمي حلماً واحداً.

السابق
يوم الام والطفل في مخيم الرشيدية
التالي
ماذا جرى حقاً في يبرود؟