سقوط خيارَي الاستبداد والدولة الدينية معاً!

في أربع سنوات من أحداث الانتفاضات الشعبية العربية التي تدحرجت من سيدي بو سعيد في تونس وصولاً إلى معظم الساحات والميادين العربية، جرت تحت الجسور مياه من كل لون وحجم.

هبّت فوقها أحداثٌ بل عواصف وأعاصير بدّلت في الاتجاهات والهويات وعلى نحو شكسبيري تراجيدي لا يقل إثارة وتاريخية عن أعظم التحوّلات الاجتماعية والسياسية التي حدثت على المسرح الإنساني منذ أحداث الثورة الفرنسية الكبرى سنة 1789.
الحس التراجيدي في الثورات العربية الراهنة – ومن دون مبالغة – بارز، بل صارخ، حتى الثمالة، أنّى قاربته، من كل الزوايا وبكل المعاني.
هو صارخ في السقف العالي للأحلام والطموحات الوردية المثيرة التي تصاعدت في البدء ودفعة واحدة فملأت وجدانات الشعوب العربية، كما في الشجاعة التي أبدتها الشعوب تلك، وبخاصة الشرائح الشابة فيها.
هو صارخ أيضاً في حجم التضحيات والخسائر البشرية والمادية الهائلة التي دفعتها، وما انفكت تدفعها، الشعوب العربية – وذروتها ما جرى ويجري في سوريا، وعلى نحو غير مسبوق منذ إقفال ملفات الحرب العالمية الثانية ومآسيها.
وهو صارخ أخيراً في “مكر التاريخ”، على حد قول هيجل، وترجمته المصائر المتوقعة وغير المتوقعة التي رسمتها، أو لم ترسمها، المؤامرات والانقلابات التي كمنت واصطادت إرادات الثوار العرب، فـ”سرقت” ثوراتهم في مغرب العرب كما في مشرقهم، بعد بضعة أيام من انطلاق ثوراتهم – كما حدث في “ميدان التحرير” في القاهرة – أو بعد بضعة أشهر كما حدث في سوريا.
باختصار، تراكمت قبل بضع سنوات وفي البدء كل الأسباب والشروط ليستحضر الاستبداد العربي نقيضه، الحرية؛ وكادت انتفاضات الشعوب العربية تبلغ غاياتها في التخلص من الحكام الاستبداديين وإبدالهم بأنظمة حكم مدنية ديموقراطية متقدمة تستأنف ما انقطع من مسيرة الحرية والتنمية والتحديث في العالم العربي.
إلاّ أن غيوماً وشياطين سوداً اجتمعت بل تراكمت بسرعة بعد ذلك، فهبّت مع الأسف رياح هوجاء معاكسة، رجعية في جوهرها وفي رمزية أصحابها، فجلبت إلى الثورات العربية وبطريقة مأسوية عناصر الاستبداد الديني بدل الحرية، والتخلف الاجتماعي بدل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والرجعية بدل التحديث والحداثة والتقدم.
مع ذلك، بل رغم ذلك، يجب الاّ يحجب الخراب والدخان “التآمري” الأسود مساحات الحرية التي انتزعتها الشعوب العربية؛ فقد دافعت الغالبيات العربية في كل ساحة عربية، وبنسب متباينة من التوفيق، عن مدنية ثوراتها وديموقراطية أهدافها، رغم التباين في القدرات، والأدوار الملتبسة أو الواضحة التي لعبتها إسرائيل والقوى والمؤسسات الغربية.
وعليه، يجب ألاّ يذهب الإحباط الناتج عن فقدان بريق الانتصارات السريعة الأولى، ولا المرارة بإزاء الخداع الذي مارسته الجماعات الدينية، بالحقائق الجديدة التي غدت في مقدمة مسرح التاريخ في عالمنا العربي الحالي والتي ستستمر إلى فترة طويلة لاحقة. الحقائق الجديدة تلك، والتي نكاد ننساها، باتت راسخة حتى درجة البديهيات التي تكاد لا تحتاج إلى برهان، وهذا إنجاز تاريخي ليس بالهيّن أو البسيط .
بين الحقائق البديهية الراسخة الجديدة تلك، نكتفي بحقيقتين بل مبدأين يفوقان في رأينا ما عداهما أهمية، وهما: سقوط الدولة الاستبدادية العربية من جهة وسقوط خيار الدولة الدينية من جهة مقابلة.
في الجهة الأولى، لم يعد للاستبداد العربي من نصير ينصره أو يقبل به تحت أي ظرف أو ذريعة. لقد بات عملة بائدة لا يتجرأ امرؤ على الاحتفاظ بها أو اللجوء إليها. ولم يعد هناك على ما يظهر بوضوح من يزعم أنه ضروري للاستقرار الاجتماعي أو التنمية الاقتصادية أو التصدي لإسرائيل.
أما في الجهة الثانية والأكثر تعقيداً وإثارة، يبدو جلياً أن المجتمعات العربية قد حسمت خياراتها السياسية “الاستراتيجية”. فغالبية جماهير المجتمعات اليوم، وبالرغم من المكانة السامية التي تحفظها للدين، قالت لا – وبكلفة عالية – للخيارات السياسية الدينية، وللدولة الدينية على وجه التحديد. هوذا المخاض المأسوي الذي لم تتردد الجماهير العربية في خوضه لمنع الأقليات الدينية الأيديولوجية من وضع يدها على الغالبيات وفرض أجنداتها على مستقبل المجتمعات العربية، والأمثلة كثيرة، جلية، بل صارخة: من تونس إلى مصر إلى العراق إلى سوريا. وتظهر كل المؤشرات الحالية أن المجتمعات العربية قاطبة ستتخلص، في بضع سنوات على الأكثر، من استبداد تلك الأقليات ومن استئثارها بالعمل السياسي وفرضها لخيارات سياسية واجتماعية باتت من خارج شروط العصر وذلك لتناقضها مع الإجماع البشري القائم في مسائل عدة، أخصها ما تعلّق بالحريات ونظم التشريع الحديثة وانتقاء القيادات والجهاد وتوقف الدعوة بحد السيف وحقوق الإنسان، وبخاصة حقوق الآخر المختلف والمرأة، وسواها.
هذان الانجازان التاريخيان اللذان تحققا، بل ترسّخا حتى درجة البديهيات، هما من الأهمية بمكان، ليس للحاضر والمستقبل المباشر فقط، وإنما للعقود المقبلة أيضاً. وستحفظ المدوّنات التاريخية بعد حين للغالبيات الشعبية العربية، ولطبقاتها الوسطى تحديداً، هذه المأثرة غير القليلة – والتي لا تقل في أهميتها على المدى البعيد من وقائع من مثل “الماغنا كارتا” والثورة الفرنسية ومبادئ ويلسون العشرة والمسيرات الطويلة الظافرة لفقراء الصين وسود جنوب إفريقيا وعمال غدانسك، وسواها.

السابق
جغرافيا سوريا بين مخططات 1920 وتحوّلات المرحلة الحالية
التالي
عقبة الدولة اليهودية