الحرب حتمية دورية؟

أوروبا استغنت عن الحروب على قارتها في نهاية الحرب العالمية الثانية. بعض “الطلعات” هنا وهناك خارج هذه القارة، لم تحسبها حرباً، إنما “دفاعاً” عن أمنها أو مصالحها. وهي لم تكلفها رجالاً بالملايين كما الحربين العالميتين، ولا دمرت معالمها أو أضرّت بإقتصادها. بالعكس، كانت تصرّف فيها منتجات صناعاتها العسكرية بأعلى الأثمان. أوروبا إذن، منكبّة على اقتصادها والحفاظ على ازدهارها السابق للحروب. ومن أجل ذلك نسجت العلاقات اللازمة، غير المتوافقة بالضرورة مع أيديولوجيتها “الحقوق-إنسانية”. أما الولايات المتحدة، فهي بصدد الإنكفاء على داخلها، و”التركيز” على بحر الصين. سحبت جيوشها من أفعانستان والعراق، وأرخت عضلاتها في كباشها الديبلوماسي مع بشار الأسد، بالصفقة النووية المعروفة؛ فبدت لنفسها وللعالم مثل آلة حربية تتضاءل تحت وطأة شيخوختها.

وبما أن ساحات الإنسان تكره فراغ القوة والسطوة، صعدت قوة عسكرية جديدة، ليست بالضرورة متفوقة على قوة الأوروبيين والأميركيين، لكنها تحسن اللعب على الجغرافيا والتاريخ والعقليات: إنها قوة روسيا العائدة إلى الساحة الدولية، تستمد عظمتها من عدم إستعداد خصومها لخوض حرب معها. قوة فلاديمير بوتين، الذي اجتاح شبه جزيرة القرم إثر الثورة الأوكرانية عليه برفضها الإنضمام إلى فلكه. في غمْضة عين، ومن دون عناء كبير، ولا إراقة دماء، تمكّن بوتين من وضع الغرب الأميركي والأوروبي في مأزق: نحن الذين عزفنا عن الحروب، ها هي الحرب تأتي إلينا من الشرق الأوروبي، فماذا نفعل؟ نندد طبعاً، نضغط ديبلوماسياً، نتخذ إجراءات عقابية، اقتصادية خصوصاً، ثم نطلق العبارات البليغة، مثل تلك التي اعتقد جون كيري انه “وجدها”، إذ قال ان تصرف بوتين يعود إلى “أزمنة غابرة”…. ثم ماذا بعد؟ قلنا “مأزق”؟ بل معضلة، تكاد تكون وجودية: فإذا تخلّوا عن الحرب، قام مارد من بين الأنقاض وأعلن الحرب عليهم.

احتلال قوات بوتين لشبه جزيرة القرم هو ضرب على خاصرة أوروبا، على شرق حلف الأطلسي. “انه تهديد لسيادة أوروبا كلها”، يقول وزير خارجية بولونيا، القريبة من أوكرانيا. هو بالأحرى، بالنسبة إلى خبراء استراتيجيا، تمهيد للإتقضاض على أوكرانيا الشرقية، وعلى أبخازيا وقازاخستان وليتيونيا ومدينة نارفغا في استونيا…

لذلك، فالغرب أمام احتمالين لمواجهة خطوات بوتين الامبريالية: إذا قرر الحرب، يكون بذلك قد فتح ملفات الحربين العالميتين، وسلك الطريق المثالي لخلق كيانات حدودية تتذرع بلغتها، أو تاريخها، أو إثنيتها… فعاد إلى الحروب المتناسلة المدمرة. لا أوروبا تريد ذلك، وهي تشتري من روسيا الغاز وتبيع لها السلاح والصناعات الثقيلة… ولا الولايات المتحدة، العازمة على نظرية تعدد الأقطاب بعدما أخذ الزمن يستهلك قدراتها. إما يدخل الغرب الحرب مع روسيا إذن، وإما يرد بالطريقة التي نعرفها، وقد لخصها أحدهم بالقول: “فيما روسيا تلعب الشطرنج، نحن نلعب بالغلَّة” (رئيس لجنة الأمن في الكونغرس الأميركي)، والمعروف عن الغلة انها كرة صغيرة حجرية أو معدنية يتلهى الأطفال بقذفها بالأصبعين. أي إن الولايات المتحدة، لا تنوي، كما في سوريا، أن ترسل طائرات للدفاع عن أوروبية شبه جزيرة القرم، وربما أوكرانيا أيضاً.

في الحالين، الغرب أمام قوة صعدت تقضم شيئاً فشيئاً من مواقعه وتهدّد أمنه القومي على المدى الطويل… وقد تدفعه، في لحظة إضافية من القضم أو القبض أو الاستيلاء، إلى أن يخوض الحرب عنوة، فندخل ساعتها في الأتون العالمي الجديد لينتهي بهزيمة احدهم وندم ثم ندم وانكفاء أو صعود…. وفي كل الحالات، إعداد لحرب مقبلة في بقعة أخرى، مع قوى أخرى “صاعدة” الخ.

يقول لينين ان الحرب حتمية في الإقتصاد الرأسمالي. وفي الحالة الراهنة، تبهت كلمته هذه أمام وقائع لم يعرفها: أولاً، إذا حصلت الحرب بين الغرب وروسيا، وهذا مجرد افتراض، فلن يكون بين “إشتراكية” و”رأسمالية”، إنما بين رأسماليتين، الروسية منها أكثر توحشاً من الأميركية وأقل شفافية. ويكون بذلك لينين قد أقام “نظاما اشتراكياً”، ولّد بعد سبعين عاماً نظاماً رأسماليا متغوِّلاً. وهذا الإستنتاج برسم “اليساريين” الذين يؤيدون كل سياسة فلاديمير بوتين، من سوريا الى القرم، لأنها صادرة عن جهة خيّرة، تريد السعادة للبشرية…
أما في الحالات التاريخية، فيبدو كأن لينين لم يقرأ عنها شيئاً، أو انه قرأها وأهملها، لأنها لا تخدم أيديولوجيته المعادية للرأسمالية عداء بدائياً. وهو عداء يخدم مشروع هيمنته على الروس والشعوب الخاضعة لها من أيام القيصر، الإقطاعي. لم “يقرأ” إن الحروب قامت قبل الغزوات “الإسكندرية” (إسكندر المقدوني)، والإمبراطورية الرومانية والفارسية والإسلامية والعثمانية… حرب المئة عام الأوروبية، بين الكاثوليك والبروتستانت…

كأن شبحاً دورياً يتربص بالبشر، يجعلهم عاجزين عن العيش مع بعضهم البعض من دون أن يتقاتلوا…

السابق
جيش اسرائيل يرد على تفجير الجولان بقصف مدفعي باتجاه الأراضي السورية
التالي
عرسال تستعدّ لتسليم حزب الله إدارة أمنها