سورية ‘رحلت الى الأبد’

منذ عام 2011 وربما الى حين وقوع الأحداث الأوكرانية الأخيرة، كان الوضع في سورية أحد المواضيع التي حظيت بنقاش واسع، أو ربما أكثرها نقاشاً، في صفوف صنّاع القرارات والمحللين السياسيين والصحافيين الروس. لكنّ معظمهم فاتته بداية النزاع السوري. فقد اعتُبرت التظاهرات والصدامات الأولية التي اندلعت عام 2011، مجرّد صدى للربيع العربي في تونس وليبيا ومصر. ولم يكن أحد يتوقّع أن تتحوّل هذه الاضطرابات المدنية وغير العنيفة في البداية إلى تحرّك أكبر.

كان الخبراء الروس يعتبرون سورية إحدى أكثر الدول استقراراً في منطقة الشرق الأوسط وشعبها ليس ميالاً الى تنفيذ أعمال عنف. إلا أنّ وجهة النظر هذه تغيّرت مع حلول عام 2012 حين اكتشفت المعارضة السورية قدرات تسمح لها بتنظيم صفوفها ضمن قوة عسكرية قادرة على تحدّي السلطات الرسمية. وكانت هذه المرة الأولى التي بدأت فيها وسائل الإعلام الروسية الحديث عن «انتفاضة» ضد نظام بشار الأسد غير الديموقراطي لوصف الأحداث الدائرة في هذا البلد.

لكن سرعان ما استُبدل مصطلح «انتفاضة» بمصطلح «حرب أهلية». وحصل ذلك لأسباب عدة. أولاً، أبدت موسكو اهتماماً تدرّجياً بدعم دمشق الرسمية ولم تكن محقة، من الناحية العقائدية، في إطلاق تسمية «ثوّار» على معارضي الأسد (وهو مصطلح يملك معنى إيجابياً باللغة الروسية). من جهة أخرى، تدلّ الأحداث التي توالت في عامي 2012 و2013 الى أنّ النزاع السوري هو أكثر تعقيداً ممّا كان يظنّ البعض في البداية، وعلى أنّ القوى التي تناضل من أجل تغيير النظام الحاكم لا يحرّكها دائماً القتال من أجل الحقوق المدنية.
واليوم، حين يتمّ الحديث عن الأحداث في سورية، يستخدم الخبراء الروس وصنّاع القرارات مصطلح «حرب» ويركّزون على طبيعة النزاع المتعدّدة الأبعاد. ويتمّ إذكاء النزاع السوري الذي بدأ كنضال من أجل الحرية المدنية الكبرى، من الأحداث الدامية القديمة ومن العداوات الدينية التي تقسّم المجتمع في البلد بين علويين وشيعة وسنّة ومسيحيين ودروز فضلاً عن عرب وأكراد وتركمان وآخرين. ويمنع ذلك بدوره المحللين من إطلاق تسمية ثورة على النزاع.

لا يمكن اعتبار هذا النزاع سورياً محضاً لأنّ الأعمال العدائية قسّمت حدود البلد بين العراق ولبنان. فضلاً عن ذلك، يساهم تدخّل القوى الغربية وروسيا والقوى الاقليمية في المواجهة في دفع بعض الخبراء إلى الحديث عن حرب بالوكالة. بالنسبة إليها، تحوّل هذا النزاع إلى معركة من أجل النفوذ في المنطقة.

وفي لا وعيهم، يعتبر الروس أنّ جهودهم في سورية هي محاولة للثأر من الأميركيين الذين لم يأخذوا برأي موسكو حيال الوضع في يوغوسلافيا العام 1999 وفي العراق العام 2003 وفي ليبيا العام 2011.
ترتبط المخاوف التي تراود البعض حيال سورية بالدور المتزايد الذي يلعبه المتشددون الإسلاميون في النزاع. فمشاركتهم الفاعلة في الأعمال العدائية حوّل هذا البلد إلى جبهة أخرى للجهاد العالمي. وبتنا شهود عيان على كيفية تحول سورية ميداناً لإنشاء علاقات بين المجموعات المتشدّدة الدولية. وقد فهمت هذه المجموعات تدريجاً بعد أن تمّ فصلها عن بعضها وتشتيتها في أنحاء العالم أنها جبهة موحّدة. ومن الممكن الافتراض بأنّه لدى عودة هؤلاء المتشددين إلى دولهم سيستخدمون علاقاتهم وتجاربهم في القتال لزعزعة الوضع هناك.
بشكل عام، يبدو أنّ الوضع الحالي في سورية وصل إلى حائط مسدود. لا تزال إراقة الدماء مستمرة ولا يخفى على أحد أنّ القوى الخارجية تلعب دوراً مهمّاً على هذا الصعيد. وتساهم طبيعة النزاع المتعدّدة الأبعاد في دفع المتحاربين إلى إطلاق نضال مستمر ضد بعضهم من دون التفكير في المصالحة. ومن شأن ذلك إطالة الحرب لوقت طويل. وفي ظلّ هذه الظروف، لا يمكن افتراض أو توقّع أي شيء حول ما ستؤول إليه الأمور في المواجهة السورية. إذ إنّ الشيء الوحيد الذي يمكن قوله على الأكيد هو أنّ سورية التي عرفناها منذ عقود عدة قد رحلت إلى الأبد.

  • محاضر في الاقتصاد السياسي في جامعة سانت بطرسبورغ. خبير في معهد الشرق الأوسط في موسكو.
السابق
اختفاء الطائرة الماليزية ‘لغزٌ’ تعززه فرضية ‘خطف إلكتروني’
التالي
الحجيري: لا وجود لمسلحين من جبهة النصرة بعرسال والجيش السوري بعيد جدا