«حزب الله».. الدولة والمواطنة

حسن فضل الله
المواطنة هي انتماء إلى وطن، بما هو المساحة الإنسانيَّة التي تختزن الترابط العميق في العلاقات بين أفراد المجموعة السكانيَّة المقيمين على البقعة الجغرافيَّة الواحدة، وتجتمع تحت أفيائها اللغة الواحدة، والتشارك في التاريخ والتراث، والتقارب في القيم والعادات والتقاليد، والتلاقي في المصالح والحاجات والتطلعات.

لا يستقيم وطن من دون دولة ترعى سلطاتُها شؤونه، وتنظم العلاقات بين أفراده، وتسهر على حسن سير النظام الاجتماعي، وتكون لديها القدرة على تطبيق قوانينها على أرضها، والدفاع عن سيادتها على إقليمها الجغرافي، وحماية استقلال شعبها وحريته ومصالحه، ورعاية حقوق المواطنة وواجباتها، ومنها:
ـ حقُّ المشاركة في تسيير الشأن العام.
ـ الانتخاب واختيار السلطة التي تدير الدولة.
ـ حقُّ التعبير عن الرأي.
ـ حقُّ المعرفة والاطلاع على المعلومات.
ـ ممارسة النشاط السياسي والاجتماعي.
ـ التزام القانون واحترام النظام العام.
ـ الإسهام في النهوض بالوطن والتضحية في سبيله.
هل تسري هذه المفاهيم والقواعد على ما نحن عليه في لبنان الوطن والدولة؟
لن أدخل في الإشكاليّات التاريخيَّة حول تشكُّل الوطن وما اعتراه من صعوبات، خصوصاً شعور شرائح شعبية كبيرة بالغربة عنه، وعدم اكتراث السلطات المتعاقبة لتبديد هذا الشعور، وامتناعها عن بذل الجهد في سبيل تعزيز الاندماج الوطني، ولن أدخل في الاختلافات حول تفسير معنى الهوية الوطنية، والارتباط بالوطن ما دامت المجموعات اللبنانيَّة جميعها ارتضت بلبنان كوطن نهائي لجميع أبنائه.
لدينا الوطن الجميل بكلّ ما يتضمنّه من معانٍ إنسانيّة، لكن هل استطعنا بناء الدولة بمعانيها المعاصرة التي تليق به وبشعبه؟
العودة إلى التاريخ مفتاح لفهم الحاضر واستشراف المستقبل.
أيُّ دولة تأسَّست في لبنان وعلى أيِّ مبادئ؟
لقد ظلَّت فكرة الدولة غائمة، ولم تجد لها أرضيَّة صلبة تبني عليها مرتكزاتها الدستوريَّة والقانونيَّة والثقافيَّة، ولئن كان التاريخ موضع خلاف والحاضر محلَّ نزاع، فإن المستقبل يبقى غامضًا ما دامت فكرة الدولة الواحدة القويَّة خارج إطار التفاهم الوطني المبني على ثوابت ومسلَّمات داخليَّة، وما دامت الروابط الخارجيَّة أقوى من الالتزامات بوحدة النسيج الوطني.
العيوب التي أصابت الدولة بدأت مع ولادتها، ورافقت نشأتها وتطوُّر صراعاتها الداخليَّة، فلم تكن منذ نشأتها سوى غلاف لجماعات تتنازع خيراتها ومصالحها، وتبني على حسابها دويلاتها الخاصَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، وتقيم روابطها مع الخارج على حساب الروابط الوطنيَّة.
دولة صار فيها الانتماء للطائفة أقوى من الانتماء للوطن المشكلة هنا ليست في هذا التنوِّع الدّيني والثقافي لأنّه غنىً للبنان بل هو من ميزات فرادته، ومن واجبنا الحفاظ عليه، لكنّ المشكلة الحقيقيَّة هي في استغلال أهل السياسة للطائفيَّة والاختباء خلف متاريسها لمنع بناء الدولة على أسُسٍ سليمة.
دولة صارت فيها سلطة الزعيم أعلى من سلطة القانون، ينخرها الفساد والهدر والاستيلاء على المال العام، ويتفشى فيها السلاح والحمايات الخاصَّة، وتتآكلها الحروب الداخليَّة.
دولة يؤدي انعدام فرص المشاركة والاستئثار والهيمنة، وغياب تكافؤ الفرص إلى تعميق الشروخ بين اللبنانيين، وتوليد الأزمات في نظامها السياسي.
وفوق كلِّ ذلك دولة تستباح حدودها وسماؤها، وتنتهك سيادتها وتحتل أرضها وتقوَّض سلطاتها وتدمَّر مؤسَّساتها من قبل عدوها الإسرائيلي من دون القدرة بل والإرادة على الدفاع والحماية.
حين تخلَّت الدولة، أو غابت عن القيام بمسؤولياتها، نشأت من صميم فكرة المواطنة بما هي انتماء إلى الوطن والتضحية في سبيله إرادة المقاومة التي لم تكن في لبنان وليدة حزب ولا فئة أو جماعة، بل هي وليدة الضرورة الوطنيَّة، فكانت هي كلّ التاريخ الممتدِّ على زمن نشأة الكيان الإسرائيلي إلى يومنا هذا، وهو التاريخ المضمَّخ بتضحيات فئات شعبية من طوائف لبنان، فئات كانت غريبة في وطنها ومهمَّشة من سلطات دولتها، لكن حين دعاها واجب الانتماء للوطن والولاء له ترجمت فهمها لأصول المواطنة مقاومة مدويَّة، إستطاعت من خلالها الدولة أن تستعيد قواها وتعيد بناء مؤسَّساتها، فلولا دور هذه المقاومة في تحرير الأرض وفي طرد الاحتلال، هل كان بالإمكان إعادة رسم صورة للدولة كما هي على الأقل اليوم؟
المفارقة هنا أنَّ من تنكَّرت لهم الدولة بسلطاتها المتعاقبة، ولم تمنحهم المواطنة الفعليَّة، جعلوا من وطنيتهم في صدق الانتماء ووضوح الولاء للوطن جسر عبورها للعودة إلى مؤسَّساتها، وذلك من خلال ما قدَّموه من تضحيات هي من مسؤولياتها اتجاه مواطنيها.
إنَّ التشريعات التأسيسيَّة لدولة ما بعد الطائف جعلت في صلب الميثاق هذه الضرورة الوطنيَّة، أي تحرير الأرض وحمايتها والدفاع عنها من خلال الإجراءات كافّة والتي فسَّرها البيان الوزاري الأوَّل بعد الطائف بأنَّها المقاومة الباسلة، وهو ما درجت عليه منذ ذلك التاريخ الحكومات كلها في العهود كلها، لذلك لا مبرِّر ولا معنى لهذا الجدال العقيم حول الحقِّ الطبيعي للبنان واللبنانيين في مقاومة العدو وتحرير الأرض، فالحماية والدفاع والتحرير في صلب الهوية الوطنية للدولة وتشريعاتها الميثاقية، والميثاقية هي ما أقرَّه اللبنانيون طيلة عقدين ونيف، وتجلَّى في بيانات الحكومات وثقة المجالس النيابيَّة التي تعاقبت على مدى أربعة وعشرين عامًا، ومثَّلت فئات الشعب بقواه السياسيَّة وطوائفه وسلطاته الدستوريَّة، وهذه الميثاقيَّة ما عادت ملكًا لفئة أو حزبٍ، أو سلطة مخوَّل التراجع عنها.
يفترض أن تكون هذه الضرورة الوطنيَّة محلَّ تقدير وتلاقٍ وطني، لأنَّ من يقوم بهذا الدور يتحمَّل عبئًا ثقيلاً عن الدولة وبقية شرائح المجتمع، وحين تصبح الدولة قادرة، يفترض أن تتولَّى هذه المسؤولية، لا أن تُلقى عليها اليوم أو تُرمى في حضنها أو توضع تحت كنفها وهي غير قادرة على تحمُّلها، وفي ذلك انكشاف للدولة والوطن والمقاومة أمام العدو المتربص بنا جميعًا.
لا يجوز للخلافات السياسيَّة والانقسامات بين القوى والجماعات اللبنانيَّة أن تنسيها المصالح الكبرى والثوابت، كالنظام الديموقراطي، وصيغة العيش المشترك، وحماية البلاد من التهديد الدائم لعدوّها الإسرائيلي، وهو ما يفترض أن يتمسّك به جميع اللبنانيين حفاظًا على سلامة وطنهم ومنعة بلادهم.
في موازاة التمسُّك بهذه الثوابت، فإنَّ الوضعيَّة الطائفيَّة للبنان تشكِّل عقبة كأداء أمام بناء الدولة، وقد يكون مطلب إلغاء الطائفيَّة السياسيَّة من الطروحات التي رافقت البرامج السياسيَّة لقوى عديدة للوصول إلى دولة المواطنة، وهو الهدف الذي يلتقي عليه كلُّ دعاة الدولة المعاصرة في لبنان، لكنَّ الواقع ظلَّ أقوى من هذه الرغبة، فلم يتحقَّق هذا المطلب، وبقي معلقًا على نزاعات الطوائف، وعلى الرغم من إقراره كبند إصلاحي في «الطائف»، فإنَّ السلطات المتعاقبة على الدولة صدَّت أي مقاربة جديَّة لتطبيق هذا البند، وصار مع انفجار الأزمات المذهبيَّة بعيد المنال، إذ انَّ التمسُّك بالصيغة الطائفيَّة تقدَّم على كلِّ الأطروحات التغييريَّة والإصلاحيَّة.
انعكس الخلل في بناء الدولة على النظِّم التي تسيِّر شؤون المجتمع ومن بينها ما يتعلق بمفهوم المواطنة في التشريعات اللبنانيَّة، وأودُّ الإشارة إلى أمرين في هذا المجال هما:
اولاً: التشريع الانتخابي، إنَّ من أبرز حقوق المواطنة إختيار المواطنين لممثليهم بحرية وعدالة من خلال قانون انتخاب عادل. لقد حرمت السلطات منذ نشأة الدولة المواطنين اللبنانيين من هذا الحق حيث عمدت على الدوام إلى سنِّ قوانين على قياس من في السلطة، وحتى اليوم ليس لدينا قانون انتخاب عادل يؤمن التمثيل الصحيح للشعب.
ثانيًا: التشريع الإعلامي، لدينا النصوص القانونيَّة التي ترعى الشأن الإعلامي، والكثير منها يحتاج إلى تطوير، أو تجديد، فضلاً عن ملء الفراغ التشريعي، وما زلنا في ورشة دائمة في لجنة الإعلام والاتصالات حول التشريعات الإعلاميَّة، وكان للجامعة اللبنانية مشاركة فيها.
إنَّ واحدة من أبرز مسؤوليَّات الإعلام إزاء مفهوم المواطنة في بلد مثل لبنان هي تعزيز الترابط الوطني، وبث التوعية الوطنية، وثقافة الانتماء للوطن، ومواجهة خطاب التفرقة، في ظلِّ طغيان الخطاب الإلغائي للآخر، ورفض وجوده، وعلى أهميَّة النصوص القانونيَّة التي تثبِّت هذه المسؤوليَّة وتجرّم إثارة النعرات الطائفيَّة والمذهبيَّة، فإنَّ المشكلة ليست النصوص، بل في علاقة السلطة بالإعلام، وطريقة تعاطيها مع القوانين الناظمة لهذا القطاع.
يصون الدستور الحريّات الإعلاميَّة في إطار القوانين المرعيَّة، والتي تخضعها لضوابط ملزمة. وتظلُّ هذه الضوابط في سبات عميق، ولا تستفيق إلا حين تتعرَّض السلطة للانتقاد. تتكدَّس قضايا الإعلام أمام محكمة المطبوعات لحساب دعاوى المسؤولين، حين يتعرض الحقُّ العام للمجتمع لخطر التفرقة وإثارة النعرات الطائفيَّة والمذهبيَّة، والترويج للفكر الإلغائي التخريبي، والترويج أحيانًا للتطبيع مع العدو خلافًا لنصوص القانون، أو حين يُعتدى على الإعلام ويمنع من تأدية دوره،. فإنَّ من بيدهم السلطة يعيدون القانون إلى غيبوبته.
يبقى بناء الدولة القويَّة القادرة العادلة هدفًا منشودًا حتَّى لو عاكسته الظروف، فهو الخيار المتاح أمام اللبنانيين، بل هو حقهم الطبيعي في أن يكون لهم دولتهم القادرة على تأمين الحياة الكريمة الحرَّة، وأن يكون القانون هو المعيار في تعاطيها مع مواطنيها.

السابق
سائق السيارة المفخخة هرب الى جرود عرسال
التالي
«غموض» حول عملية شبعا المُتقَنة