تسوية البيان وحدها لا تكفي..!

من الممكن القول إن التسوية التي تم التوصل إليها، وأدت إلى الإفراج عن البيان الوزاري، ليست مثالية، ولا هي تلبي طموح اللبنانيين، خاصة جمهور آذار، وقد لا تُرضي أيضاً أنصار آذار.

ومع ذلك، كان لا بد من «اختراع» صيغة ما تساعد على خروج الحكومة الوليدة من المأزق، وتؤدي، في الوقت نفسه، إلى إنقاذ الدولة من الانهيار الكامل، والسقوط في هاوية الفراغ القاتل!
على طريقة ليس بالإمكان أفضل مما كان، أسفرت الجهود المضنية عن تسوية، ليس في موضوع البيان الوزاري وحسب، بل وأيضاً تصلح لإعادة الحوار في ملف الاستراتيجية الدفاعية، إذا خلصت النوايا، وأدرك الأفرقاء السياسيون حراجة الوضع اللبناني، وخطورة المرحلة الملتهبة في المنطقة، وأهمية إعطاء الأولوية للحد من الانقسامات والخلافات الداخلية.
والتوصل إلى « الصيغة – التسوية» لا بالضرورة انتفاء أجواء الخلافات والتباينات بين مكونات الحكومة السلامية، ولكن يمكن أن يشكل مدخلاً لهدنة سياسية، تُتيح المناخات المناسبة لتمرير الاستحقاق الرئاسي، سواء بالانتخاب أو بالتمديد، وصولاً إلى التوافق على قانون جديد للانتخابات النيابية، وبالتالي إعادة الحياة إلى المؤسسات الدستورية، وإنقاذ البلاد والعباد، ومعهما مشروع الدولة من الموت السريري، الذي يتخبّط فيه الجميع في الفترة الأخيرة.
* * *
في قراءة موضوعية ومتأنية لفقرة الدولة والمقاومة، يتبين أن لا منتصر بالمطلق، كما لا خاسر، بالمعنى السياسي لحسابات الربح والخسارة. صفحة المعادلة الثلاثية: الشعب والجيش والمقاومة، طويت بالكامل، مع طي مرحلة بآمالها وآلامها، وربط المقاومة بالدولة لم يتحقق بشكل واضح، وإن كان النص قد وضع مسؤولية التحرير على عاتق الدولة، تاركاً للبنانيين فرصة مقاومة الاحتلال!
ولعل هذا الالتباس في النص، وما قد يثيره مستقبلاً من سجالات في التفسير والتأويل، كان وراء تحفظ وزراء حزب الكتائب واللواء أشرف ريفي، الذين اعتبروا أن الربط لم يكن حاسماً في وضع المقاومة برعاية الدولة، أو على الأقل في كنف الدولة، كما كان يطالب به فريق آذار.
غير أن هذا الموقف المتحفظ، على أهميته، لم يُؤخر وقوف الأكثرية الوزارية إلى جانب التسوية، واعتماد النص النهائي للبيان الوزاري، تمهيداً للانتقال إلى مجلس النواب والحصول على الثقة، والانصراف إلى ما يمكن إنجازه على صعيد معالجة الأزمات والمشاكل التي تقض حياة اللبنانيين، في ظل الغياب المتمادي للدولة وإداراتها الفاعلة من حياة الناس.
صحيح أن التسوية السحرية تأخرت في النضوج، بعدما وضع الرئيس تمام سلام الجميع أمام مسؤولياتهم الوطنية والتاريخية، وأعلن عزمه على الاستقالة، بسبب فشل الفريقين الآذاريين في التوصل إلى توافق الحد الأدنى في اجتماعات اللجنة الوزارية، وبالتالي تعذر إنهاء البيان الوزاري للذهاب إلى جلسات الثقة، وانطلاق الحكومة بكامل الصلاحيات الدستورية.
ولكن هذا المَخرَج الذي تمت صياغته في ربع الساعة الأخير، جاء نتيجة مشاورات داخلية متعددة الأطراف، وما واكبها من تدخلات وإشارات إيجابية خارجية، شجعت جميع القيادات اللبنانية على الذهاب إلى تسوية معقولة، بعدما تمنت على رئيس الحكومة التريث في تقديم استقالته، لإفساح المجال أمام مساعي الوصول إلى التوافق المقبول.
* * *
أما وقد أصبحت مرحلة التأليف والبيان وراءنا، وجلسات الثقة معروفة النتائج سلفاً، من الأكثرية النيابية الوازنة التي ستحظى بها الحكومة الوليدة، فإن أنظار اللبنانيين تتجه حالياً إلى مسلسل الأزمات المعيشية والاقتصادية، التي تهدد لقمة عيشهم، وإلى المخاطر التي تحيق بأمنهم واستقرارهم، تحت ضغط الحرب السورية وتداعياتها المرعبة، إزاء التزايد المستمر لتدفق النازحين السوريين، من جهة، والمخاطر الكبيرة لانتقال النار السورية إلى الداخل اللبناني، من جهة ثانية.
لا أحد يتوقع من الحكومة الجديدة تحقيق المعجزات، ولكن ثمة خطوات لا بد من اتخاذها لتحصين الوضع الداخلي الهش من أي انفجار مفاجئ، بسبب إفرازات المواجهات في سوريا على التركيبة اللبنانية المتصدعة أصلاً بسبب استفحال الخلافات والصراعات التي غلب عليها الطابع المذهبي والمناطقي.
والواقع أن الحكومة، ومعها كل مؤسسات الدولة المعنية، لا تستطيع أن تستعيد الاعتبار لسياسة النأي بالنفس عن الصراعات العربية، وخاصة بالنسبة للحرب السورية، إذا لم يبادر «حزب الله» إلى اتخاذ الخطوات المطلوبة بالانسحاب من الميدان السوري، وإعلان عودته إلى الالتزام بمقررات طاولة الحوار الوطني، وخاصة إعلان بعبدا.
رب قائل إن قرار ذهاب الحزب إلى سوريا له امتدادات إقليمية، سورية وإيرانية، ولكن ما حققته مشاركة الحزب في المعارك الفاصلة، من القصير إلى ريف دمشق ويبرود، تكفي لتبرير الانسحاب من سوريا، والعودة إلى الداخل اللبناني، من دون أن يعني ذلك، ولا يجب أن يعني، إمكانية توظيف ما تحقق في سوريا لتغليب كفة الحزب في المعادلة الوطنية، التي تشكو أصلاً من خلل فاضح، بسبب وجود السلاح مع الحزب.
ليس جديداً القول إن الوضع اللبناني وصل إلى حد من الاهتراء والتلاشي، مما يشكل خطراً داهماً، ليس على المرحلة الراهنة وحسب، بل وعلى الصيغة اللبنانية برمتها، بما تعنيه من عيش مشترك، ونظام ديموقراطي، ووحدة الأرض والشعب! الأمر الذي يتطلب من الجميع العمل سريعاً ضمن خطة إنقاذية شاملة، أو التجرؤ على الجهر بخياراتهم الأخرى، التي تتعارض حتماً مع محاولات الإنقاذ، مهما كان شأنها!
ولعل من سوء طالع اللبنانيين أن بلدهم يمرّ بمرحلة حرجة من تاريخه المتعثر، من دون أن يلقى هذه المرة الاهتمام المطلوب من الأشقاء والأصدقاء، لأن وطنهم لم يعد يتصدّر سلم الأولويات في أجندة المنطقة، بعدما عصفت رياح الربيع العربي بأمن واستقرار أكثر أنظمة المنطقة بأساً، بل وأكثرها رسوخاً، حتى الأمس القريب طبعاً!
أما الدول الشقيقة الأخرى فهي منهمكة بحماية مجتمعاتها من مخططات «الفوضى البناءة»، وصد محاولات التدخل في شؤونها الداخلية، ووضع حدٍ لتلاعب الصغار بمصائر واستقرار الكبار!
ليس أمام اللبنانيين إلا الكشف عن سواعدهم، والعمل جدياً على مواجهة التحدّيات المحيطة بهم، والدفاع عمّا تبقى من مبررات لوجودهم الوطني في كنف الدولة الواحدة، إذا كان فعلاً مَن لا يزال مؤمناً بـ «لبنان الواحد والدولة الواحدة»!

السابق
البلد: حزب االله يعتقل أحمد الأسير في يبرود
التالي
الدولة تحجب القبور عن آلاف اللّبنانيين