الدولة تحجب القبور عن آلاف اللّبنانيين

حوالي 17 ألف لبناني مفقود منذ أيّام الحرب، منهم أكثر من 600 لبناني مفقودين في سجون نظام الأسد من دون أن يعرف أحد مصيرهم. ليس هناك ما هو أسوأ من أن تمضي سنوات وأنت لا تعرف. البعض يحتاج إلى أشلاء أيضاً لكي تخفّف وطأة المرارة. بعد حوالي 4 عقود من ذلك الزمن، ما زالت الدولة تخاف أن تكشف أوراق المسلحين والتحقيقات معهم. دولة تندفع "بشهامة" وراء ملفات إقليمية كخطف الراهبات وتضرب يدها على صدرها متوّعدة بالحل.

عندما اتّصلت بالسيّدة وداد الحلواني، مسؤولة رئيسة لجنة أهالي المخطوفين، للاستفسار عن قرار مجلس الشورى الأخير بإعطاء الحقّ لأهالي المفقودين منذ أيّام الحرب الأهلية بالاطّلاع على التحقيقات الّتي أُجريت بهذا الخصوص، قالت إنّها بحاجة إلى قبر وأنّه من حقها أن يكون لها قبر لزوجها المختفي منذ عام 1982.

قالت حلواني، وهي أمّ لشابّين، أنّ حفيدها البالغ من العمر 5 سنوات يسأل عن جدّه ولا يمكنها أن تفسّر له كلّ ما حدث في الماضي وصولا إلى حكاية خطف زوجها: “لو كان هناك قبر لزوجي، كسائر الناس، لأخبرت حفيدي أنّ جدّه توفي ولأمسكت بيده واصطحبته معي لنضع له الزهور على القبر”.

ليس هذا طلباً تعجيزيّاً بل هو، كما وصفته السيدة حلواني :”حقّ”. زوج حلواني كان ناشطاً اجتماعياً وسياسياً عمل على مساعدة الناس المتضررين من الحرب الأهلية اللبنانية وكان يؤمن لهم الغاز والمازوت وما شابه. وهو مخطوف منذ أيلول 1982. لم تتّهم حلواني أحد ولا أثارت مواضيعاً سياسية وقالت إنّ الأوضاع كانت مضطربة حينها و”فلتانة”. لم تبحث عن امتداد للصراع بل فقط عن حق المعرفة.

هناك حوالي 17 ألف لبناني مفقود منذ أيّام الحرب، منهم أكثر من 600 لبناني مفقودين في سجون نظام الأسد من دون أن يعرف أحد مصيرهم. الكثيرون منهم مدنيون ولم يكونوا مسلّحين. كلّهم لهم أهل وأقارب، زوج أو زوجة، أشقّاء، أمّ وأبّ. يمكننا أن نتخيّل المعاناة الممتدّة على سنوات من دون أن يعرفوا مصير أحبّائهم. ربّما فقد الكثيرون منهم أيّ أمل بأن يكون هؤلاء المفقودين أحياء ولكن جميعنا كبشر نحتاج إلى نهاية. ليس هناك ما هو أسوأ من أن تمضي سنوات وأنت لا تعرف.

البعض يحتاج إلى أشلاء أيضاً لكي تخفّف وطأة المرارة. ورغم أنّ تحقيقات الدولة اللبنانية أثبتت وجود مقابر جماعية في بيروت وخارجها، غير أنّها لم تتّخذ أيّ خطوة لنبشها. الناشطون في الملف  يشككون حتّى أنّ الدولة ستلتزم بقرار مجلس الشورى الأخير بخصوص التحقيقات. تكاد السلطات تقف موقف الجلاد المستمر في هذا الملف، ربما لأنّ رجالات الحرب هم أنفسهم رجال الدولة اليوم. ولكن صرّح أهالي المفقودين في مناسبات عدّة أنّهم لا يريدون المحاسبة السياسية بل فقط المعرفة.

الحرب اللبنانية لم تنته، مخلّفاتها مستمرّة في حياتنا اليومية. مرتكبوها يتصارعون الآن على سدّة الرئاسة في لبنان وبعض دمارها ورثناه نحن، من لا ذنب لنا فيها. الصراعات بين الأحزاب السياسية مستمرّة، لا بل نعيش هاجس تكرّر الحرب تحت عناوين مختلفة ولكن متشابهة. حكايا الحرب الإنسانية لم تأخذ حيّز الاهتمام الكافي في الإعلام. يمكنك أن تجد آلاف الكتب عن يوميات الحرب وصراعها السياسي ولكن من النادر أن تجد حكايا الناس التي عاشوها.

بعد حوالي 4 عقود من ذلك الزمن، ما زالت الدولة تخاف أن تكشف أوراق المسلحين والتحقيقات معهم. بعد حوالي 4 عقود على الحرب وبعدما دمّرت ما دمّرت، تريد الدولة أن تحجب القبور عن آلاف اللبنانيين. هذه الدولة ذاتها تندفع “بشهامة” وراء ملفات إقليمية كخطف الراهبات وتضرب يدها على صدرها متوّعدة بالحل. وما زلتم لا تفرحون بهذه “الإنجازات”؟

السابق
تسوية البيان وحدها لا تكفي..!
التالي
ابن تولين المعمّر أحمد أمين فاضل رحل عن 108 أعوام