كيف يقرأ حزب الله أبعاد التعقيد والتصعيد

سواء توصل فريقا 8 و14 آذار إلى صيغة توافقية للبيان الوزاري، وبالتالي تمكنت الحكومة الوليدة منذ نحو شهر من الإقلاع، أم أن عقدها انفرط من خلال تنفيذ رئيسها تمام سلام تلويحه بالاستقالة إذا ما ظلت ابواب التسويات التي يحكى عن صيغها المتعددة موصدة، فإن السؤال بات مشروعاً لدى المراقبين عن الأسباب الحقيقية والجوهرية والقطب المخفية، التي جعلت انطلاقة تجربة المشاركة السياسية الرابعة (منذ عام 2005) بين طرفي النزاع في لبنان متعثرة ومعقدة على هذا النحو وتغرق في لجة فيض من الهواجس والمخاوف وانعدام الثقة بشكل غير مسبوق.

وعليه فان من البديهي أن يتوقف المراقبون ملياً أمام مشهد التعقيد الحكومي الأخير، ليخرجوا باستنتاج فحواه أن العقدة الأساسية التي تحول دون إنتاج البيان الوزاري وانضاج تسوية له، ليست البيان نفسه، بل إن ثمة رغبات ونيات دفينة لدى هذا الفريق أو ذاك في أخذ الأمور نحو مرحلة من التصعيد والتعقيد، تصير معها حكومة تصريف الأعمال هي المنشودة من الاصل في ذاتها واستطراداً يصير الفراغ الحكومي أمراً واقعاً وقدراً لا فكاك منه.
لم يعد خافياً أنه عندما خرج الرئيس سعد الحريري من قاعة المحكمة الخاصة بلبنان في لاهاي قبل أكثر من شهر ليعلن على الملأ قراراً مفاجئاً عنوانه العريض القبول بحكومة شركة سياسية مع “حزب الله” حتى لو ظل حاضراً في الميدان السوري، سرت في الأوساط المعنية جملة تفسيرات وتأويلات للأسباب التي حدت بزعيم التيار الأزرق الى ان يتخلى عن شعارات سياسية عطلت استيلاد الحكومة لمدة تجاوزت الأشهر التسعة.
البعض تحدث في دوائره الضيقة عن دور أميركي حاسم جسّده السفير الاميركي في بيروت ديفيد هيل، الذي مارس ضغوطا جدية على عاصمة اقليمية معنية بالوضع اللبناني بغية تذليل العقبات الحائلة دون ولادة الحكومة ولو كانت على حساب فريق 14 آذار وتحديداً تيار “المستقبل”، بقصد بعيد هو تأمين الاستقرار الداخلي اللبناني، واستتباعاً بهدف تأمين فرص انتخابات رئاسية.
وعندما نضجت صيغة الـ”8، 8، 8” وقبل بها الجميع قاسماً مشتركاً، لتسهيل ما كان متعسراً، ثمة من بادر إلى السؤال: كيف سيتم التوافق على بيان وزاري يجمع بين الأفكار المتضادة الى حد الطلاق، الى درجة ان البعض عرض فكرة التفاهم على فحوى هذا البيان بموازاة التفاهم على الحكومة نفسها لتوفير ظروف أكيدة لانطلاقة الحكومة بعد نيلها الثقة.
لكن ثمة من ارتأى لسبب أو لآخر ترحيل أمر البيان الوزاري الى ما بعد إبصار الحكومة النور عملا بثلاث ثوابت:
اولاها: أن التقليد في تأليف الحكومة يقضي بتأليف لجنة وزارية بعد الولادة الحكومية تتولى مهمة إعداد البيان وفقاً للدستور.
ثانيتها: أن المعنيين لن يعدموا صيغة لغوية للبيان ترضي الجميع، واستطراداً يجد فيه الجميع أنفسهم ليكون ذلك “فك مشكل”.
ثالثتها: ان الإرادة التي استولدت الحكومة بعد طول لأي وجهد، هي عينها ستؤمن ولادة البيان الوزاري.
وعلى هذه القواعد الافتراضية الثلاث، انطلقت لجنة إعداد البيان الوزاري في رحلتها، وكانت الاجتماعات الأربعة الاولى إيجابية وفق أجواء كلا الطرفين، إلى أن هبت فجأة ومن خارج كل الحسابات رياح التعقيد والتصعيد التي وضعت هذه التجربة التشاركية الجديدة كلها في مهب الرياح.
فما عدا مما بدا؟
طبعاً لكل طرف رؤيته وتبريره على نحو يسارع الى وضع المسؤولية على الطرف الآخر ويرمي الكرة الى مرمى الطرف الآخر محملا إياه تبعة الرغبة في اعادة عجلة الأمور الى المربع الأول.
ومن الطبيعي أن لدى كل طرف لوائح دفوع وإثبات طويلة، لكي يدفع عن نفسه تهمة التعطيل، وبالتالي تهمة تبديد كل اجواء التفاؤل التي لاحت في الافق لبعض الوقت.
لكن فريق 8 آذار، وتحديداً “حزب الله”، لديه اكثر من تساؤل وتوجس حيال ما يسميه “انقلاباً” متأخراً على إيجابيات برزت بداية.
وتقول دوائر في الحزب إن ثمة سذاجة ومراهقة سياسية لدى من قال بأن الحزب يمكنه أن يتخلى عن ثابتة المقاومة وأن يقبل بإلغائها او تقييدها (مرجعية الدولة) أو تمييعها بصيغة فضفاضة مطاطة يمكن أن تستغل لاحقاً لغايات ومآرب.
وعليه ترى دوائر الحزب نفسها ان ثمة قراءات وتحليلات متعددة لديها للأسباب التي حدت بفريق تيار “المستقبل” على وجه التحديد لفتح باب بازار التعقيد على هذا النحو لإيصال الأمور الى ما وصلت إليه أخيراً.
وأبرز بوادر هذه القراءات والتحليلات:
– أن تيار “المستقبل” ولج منذ البداية باب الرغبة في الشركة السياسية مع الحزب وحلفه السياسي، لكي يطوي صفحة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي نهائياً ثم ليصل إلى حكومة تصريف اعمال يكون زمامها بيده ويدير بها الأمور والأزمة إلى ما شاء الله، أي أنه لم يكن يريد أصلا لا بياناً وزارياً ولا ثقة ولا حكومة كاملة المواصفات.
– أن تيار “المستقبل” شاء من الاصل أن يدخل في كباش عملي جديد مع “حزب الله” وصولا إلى تحقيق غايات عدة أبرزها محاولة استدراج الحزب إلى التخلي عن صيغة المعادلة الثلاثية، لكي يقال لاحقاً، وهذا ما بدأ فعلاً، أن الحزب بدأ يتراجع عما كان يعتبره ثوابت، وإذا لم تنجح هذه الخطوة فثمة مكسب معنوي آخر من هذه “المماحكة” حول المقاومة وجدواها، عنوانه العريض انها محور خلاف وتباين، وسبب التعطيل والتعقيد الحاصل، وأنها استطراداً العبء السياسي الأكبر على مجمل المشهد السياسي، خصوصاً بعدما أخفقت أشكال أخرى متعددة من الهجمات والحروب على المقاومة لا سيما بعدما دخلت طواعية الميدان السوري.
– أو ان ما جرى أخيراً يثبت صدقية نظرية سياسية راجت عن تباين داخل تيار “المستقبل” نفسه حيال موضوع الشركة مع الحزب بين محور راغب جدياً في هذا الأمر لاعتبارات وحسابات عدة تحت عنوان “ربط النزاع”، وبين محور آخر رفض هذه الشركة قطعياً وتراجع لبعض الوقت ثم عاد وأخذ زمام المبادرة وأحبط التجربة كلها، عندما وجد الفرصة مؤاتية.
– أو أنه من الأصل تحولت كل الحسابات الداخلية والاقليمية التي فرضت الإفراج عن الحكومة الجديدة، قبل أكثر من شهر، وبالتالي اتت ساعة أخرى بحسابات مغايرة تدعو إلى تعطيل ما كان قد بدأ، وقد تجلّى هذا التحول من خلال مضمون الكلمة التي ألقاها الوزير نهاد المشنوق في مؤتمر وزراء الداخلية العرب في المغرب والتي كانت علامة فارقة لا تصدر عن وزير في حكومة شركة سياسية، خصوصاً لجهة تهجمه على حزب شريك في الحكومة وعلى دولة لها علاقات ديبلوماسية مع لبنان.
أياً يكن من هذه الأسباب صحيحاً فالثابت بالنسبة الى “حزب الله” وحلفه السياسي انهم غير نادمين على هذه التجربة على رغم ما يمكن أن تؤول اليه في قابل الايام.
ففريق 8 آذار بدا من خلال هذه التجربة أكثر مرونة وأكثر حرصاً على الاستقرار واطلاق عجلة العمل الحكومي، وأكثر استعداداً للتنازل والأخذ والعطاء، في سبيل تبديد حال الاحتقان، والحيلولة دون تمكن الارهاب من تثبيت قواعده الداخلية وصيرورته عنصراً ثابتاً من عناصر المشهد الداخلي على غرار ما هو حاصل في العديد من البلدان العربية.
وتضيف الدوائر نفسها، انه إذا كان فريق تيار “المستقبل” قد بنى حساباته من الاصل على أساس ان بالامكان تطويع “حزب الله” وجعله يتنازل تحت وطأة انه مستغرق في الميدان السوري، فذلك ضرب من السذاجة والخفة السياسية.

السابق
فقدان الانتماء للزمن والحرية
التالي
السفير: تفاصيل المفاوضات بين بري وجنبلاط والسنيورة والحريري.. وحزب الله