فقدان الانتماء للزمن والحرية

أزمة تأليف الحكومة ثم البيان الوزاري ثم الفراغ الرئاسي المقبل، دلائل كافية على «سقوط الجمهورية الثالثة». لا يمكن أن نتوقّع متغيّرات سياسية تعيد انتظام عمل مؤسسات الدولة وآليات إدارتها دستورياً، فلا حاجة لتفسير «مهل الحث والإسقاط». ولا حاجة كذلك للبحث عن تسوية ظرفية ما دامت الأمور سائرة نحو صياغة جديدة للنظام السياسي. تغيّرت وظيفة الكيان هذه المرة في ضوء تغيّر وظائف الكيانات الأخرى في بلاد الشام والعراق. لبنان المستقبل هو جزء من منظومة لم تكتمل هويتها في ظل الحروب المركبة الأهلية والإقليمية الدائرة في هذه المنطقة.
فرص «حياد» و«تحييد لبنان» تكاد تكون معدومة بعد التورط المباشر في الأزمة السورية. تزايدت أكثر من ذي قبل تبعية أطراف الداخل لسياسات الخارج لاعتبارات وحسابات مختلفة. جاءت لحظات أو محطات عدّة في تاريخ لبنان لكي يختار بنوه صيغة ملائمة لاستقلاله الفعلي، وضاعت كل هذه الإمكانات وآخرها جلاء الاحتلال الإسرائيلي والوصاية السورية. لن تفيد عبارة «لو أنَّ… ويا ليت» طالما أن محاولة «النأي بالنفس عن الأزمة السورية» لم تصمد وجرت ممارسة نقيضها بتبريرات معلنة. ما كان يجب مخادعة النفس، ولا المراهنة على الوقت لكي نجد حلاً لخلاف عميق لن يحسم في مدى زمني قريب. والأرجح أننا سنظل في هذه الدوّامة سنوات، حيث لا قدرة على المبادرة من أجل صياغة نظام سياسي جديد وتفهم حقيقي على دور الكيان اللبناني والشراكة المتكافئة التي توفر الاستقرار انطلاقاً من رسم الحدود بين الداخل والخارج.
ينعكس هذا المناخ بأشكال مختلفة على القوى السياسية والجمهور، في نوع من الاستسلام لدورة المماحكة السياسية والدوران حول المشكلات والانتظارية غير المسبوقة لتداعيات الخارج وتفاهماته. بينما تتسع مشاعر الإحباط واليأس لدى الجمهور الباحث عن «وطن بديل» لا عن بديل وطني. المفجع أننا صرنا شعوباً من النازحين والمهجّرين والمهاجرين، من لبنان إلى العراق وسوريا وطبعاً فلسطين، وأن حروبنا هذه تشي بمزيد من الملايين إلى شتات، ومن أدار ويدير هذه الحروب يعدنا بغدٍ أفضل. وربما حين تنتهي هذه الكارثة بعد «النكبة» وبعد «الهزيمة» نجد من يعزّينا بسقوط «حدود سايكس ـ بيكو»!
ما لا يجوز إنكاره طبعاً المصير البائس لقوى التغيير في هذا الشريط من المشرق العربي. ولهذا السبب بالذات ندرك جدلية العلاقة بين الأوضاع القائمة وشكل انهيارها، وقد انهارت فعلاً ولا مجال لترميمها مهما زعم الزاعمون. ما نحتاجه اليوم حركة تفكير واسعة للخروج من هذا المأزق التاريخي الذي لا نقطع مرحلة منه إلا ونقع في مطب آخر. وكم سيكون الأمر فظيعاً إذا بدأنا التفكير في صوت عالٍ في مصير القضية الفلسطينية خارج هذا التلعثم وهذا العلك المستمر وهذا الخجل أو المراوغة في مواجهة طبيعة التحديات التي أوصلنا إليها المشروع الصهيوني، أو كم سيكون مؤلماً أن نتصارح أو نتباسط في الوقائع والأسباب التي أدت بالمشرق العربي إلى هذا التراجع الرهيب في ثقافته الإنسانية بعد انحطاط ثقافته السياسية. وكم سنكون بحاجة إلى الاعتراف بأن «مشروعنا العربي» خلال مئة عام قادنا إلى هذا المنحدر من الطوائفيات التي مزّقت ليس دولنا فقط بل مجتمعاتنا وقتلت فينا الكثير من المنجزات الإنسانية. نحن الآن في مواجهة تيارات ظلامية وفي حالٍ أكثر تبعية وفي تقهقر إلى توحّش نفتقد إلى عناصر التمدن بكل معانيها ودلالاتها. ولبنان بالذات منقلب على ذاته المكتسبة حتى لا نقول الأصلية يصرف رصيده الإيجابي لأي فئة انتمى هذا الرصيد، وبأي ميدان كان هذا الإنجاز، الثقافي والمدني والعمراني والاجتماعي والسياسي. فإذا كان عقم الطبقة السياسية أصبح محل خبر شائع، فهل سيكون عجز البدائل كذلك مدعاة للقول: إن مصيرنا لم يعد في متناول الشعوب وإرادتها وطموحاتها، ولنخرج من قاموس السياسة تعابير الحرية والاستقلال والتحرير والوطنية؟

السابق
ريفي: لا نص بالبيان يطالب حزب الله بالانسحاب من سوريا ووقف الأمن الذاتي
التالي
كيف يقرأ حزب الله أبعاد التعقيد والتصعيد