دولة المقاومة أم مقاومة الدولة؟

«لا بيانَ وزارياً من دون ذكر المقاومة، ولا حكومة ولا وجود لبنان من دون المقاومة، ولن يأتي زمن لا تكون فيه المقاومة جزءاً من المعادلة السياسية الوطنية (…)«. نحن ندافع عن هذا البلد لتنوعه وتعدده وطبيعته وصيغته».

هذا ما قاله حرفياً أحد المستنطقين باسم حزب الله وليسَت المرة الأولى ان يصدر عن هؤلاء وعن 8 آذار مثل هذه الأقوال الغريبة، وقد برهن جميعهم على امتداد السنوات العشر الأخيرة (وقبل ذلك في ظل الوصاية السورية) ان وجود لبنان وتاريخه ومصيره وكيانه مرتبط بهم. اما نحن وإما لبنان. إما نحن وإما الحكومة. إما نحن وإما البرلمان اللبناني. بل كأن لبنان وُلد معهم وبهم، ويذهب معهم إذا ذهبوا، ويقدم معهم إذا قدموا. وسبق أن قال بعضهم بلسان فضفاض ان لبنان من دونهم «أقل من لا شيء«. اقل من نثرة ظفر من أظفارهم. شيء غريب. والله. وكأنهم يقولون علناً وبلا استحياء ان لبنان وُجد أصلاً من ألوف السنوات من أجلهم بالذات. نوع من «سِفر» الرؤيا.أو«سفر التكوين» أو نوع من كلام «نبوي» لا يمكن أن نسمعه إلاّ من أفواه الذين وضعوا لبنان تحتهم وأقتعدوه. أو قبضوا عليه وأسَروه. أو خطفوه وارتهنوه. بل كأن البيان الوزاري «فدية» على المخطوف ان يدفعها للخاطف. وقد نسي هؤلاء انهم لولا لبنان لما وُجدوا. ولولا الشعب اللبناني لما كانوا. ولولا نضال هذا الشعب لما قامت لا مقاومة ولا من يقاومون. بل كأنهم يقولون انهم «صنعوا» لبنان على صورتهم، فاذا لم يكن كذلك، كسروه. هذا العقل «الخرافي» هو عقل استبدادي يذكرنا بزمن الطغاة. طغاتنا العرب، وسواهم. ويذكرنا بمنطق الاستعمار في كل بقعة من الأرض وعلى مر التاريخ.

والأغرب ان مقولتهم هذه (وهي مقولة فوقانية تسمو على كل البلد) تتكلم عن ضرورة ذكر «المقاومة» هكذا منفصلة عن كل شيء. وهنا نتذكر الثلاثية المشؤومة «الشعب، الجيش، المقاومة» هذه صارت ذكرى من تذكاراتهم أيضاً. شعب مختزل بهم. وجيش أكثر اختزالاً. واليوم دور البلد كله. بمعنى آخر كأنهم يقولون انهم فوق الدولة، والجمهورية والمؤسسات والدستور والقوانين وكل شيء. يريدون مقاومة «متحررة» من بلدهم ومرتبطة بالخارج. فهل يجرؤ واحد منهم القول إن «مقاومتهم» لا تؤتمر بارادة «الدولة» الإيرانية «جلّ جلالها»! بل كأنهم يقولون إن إيران، بهم، هي فوق الدولة اللبنانية. وانها أكثر من وصاية بل سبب وجود لبنان. فلولا إيران (وهم جنود صغار في جيشها الغظيم)، لما كنا أصلاً موجودين. لا أرحاماً، ولا اجساماً. ولا حدوداً. ولا كياناً. ولا أحلاماً. ولا فكراً. ولا استقلالاً. ولا سيادة. فوجودهم الايراني في لبنان كيانية إيرانية مستقلة في ذاتها. وحتى كيانية لبنان جزء من كيانية ايران. وهذا يعني، مداورة ومباشرة، ان لا لبنان من دون الوجود العضوي لولاية الفقيه في أمورنا وشجوننا. فدولتهم هي هناك في طهران. وسواها. أو ضمن جمهورية الملالي وليس داخل الجمهورية لبنانية. هذا هو لب الصراع حول خلفيات البيان الوزاري. المقاومة فوق الدولة اللبنانية لأنها تحت ظل الدولة الايرانية التي «لا يُعلى عليها» في منطقهم وعقيدتهم وطبائعهم وممارساتهم. لا يريدون بكل وقاحة أي مرجعية لهم في هذا البلد. ولا أي رابط. لا شعبي. ولا مؤسساتي. ولا تاريخي. قطعة مقاومة تطفو منفصلة عن كل ما حولها. حتى عن بيئتها. وعندما تقول فئة انها وبواجبها الجهادي المرسوم في بلاد «الجهاد» الفارسي، فيعني انها خارجة على كل الأعراف والقوانين. بمعنى آخر انهم يقولون بالفم الملآن (وبالرؤوس المدججة بالعنف) نحن فوقكم جميعاً. نحن نقرر الحروب بارادة خارجية، مع اسرائيل وسواها. ونحن وبإمرة الجمهورية الايرانية نذهب إلى الحرب لنقاتل الشعب السوري، ولا نحتاج إلى رأيكم. ولا إلى «فلسفاتكم» . انتم وما عليهم إلاّ ان تتحملوا تبعات قراراتنا: في حرب تموز دُمر البلد ورفعنا اشارات النصر. وها نحن في سوريا شئتم أم ابيتم. وما عليكم سوى ان تتحملوا النتائج التي تسفر عن «جهادنا» للدفاع عن نظام البراميل المتفجرة والسكود والكيماوي والقصف والتهجير. يقولون لنا: نحن الأحرار الوحيدون في هذا البلد (ولو اننا أجبن من أن نعارض شاويشاً من الحرس الثوري) انها اللعبة الثلاثية: الدولة تحتنا. نحن فوقها. والجميع تحت دولة الملالي. انتم تغطوننا من تحتنا، وايران تغطينا من فوق، مراتب وطبقات. وهكذا يجب ان يكون صلب البيان الوزاري اليوم، ورئاسة الجمهورية وكل شيء. وعليكم قبول هذا «الواقع» التاريخي. الوطني. المجاهد. «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». ونحن المعركة. لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة ونحن المقاومة.

ازاء هذا الجنون الهستيري وفائض النرجسيات (كفائض أسلحة الخارج) هناك من يقول لكم، ستكونون تحت الدولة اللبنانية. وانتم جزء من الدولة اللبنانية لا الدولة جزء منكم. انه بكل بساطة منطق السياديين وشعب الدولة ورجالها وناسها سواء من 14 آذار أو سواها. هذا موقف رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف… والجزء الأكبر من المجلس النيابي لأنهم يرون في ذلك منحى انفصالياً مستمراً في التحفير في جسم لبنان. فحزب الله هو تأسيساً ظاهرة خارجية زرعت في هذه الأرض، ورفضت مرجعية الدولة، تكريس، لانتمائه الخارجي. دولة فوق الدولة. دويلة أكبر من الدولة. «جماهيرية» تريد ان تبتلع الجمهورية باسم المقاومة وسلاحها. أكثر: ميليشيا تشكل تواصلاُ عضوياً مع منطق الميليشيات السابقة منذ السبعينات: كل ميليشيا هي دولة. وكل طائفة هي شعب. وكل سلاح هو سلاح «مقاومة». ان منطق الحزب المتغطرس سلاح الخارج! «المتعالي» (على شو يا خويا!) والمتمادي، والمتفلت، والأرعن هو منطق ميليشيوي لا منطق مقاومة. ذلك ان كل المقاومات الحقيقية التي عرفت كانت تسعى إلى تحرير بلادها من كل وجود أجنبي. هذه المقاومة تفعل كل شيء لتربط بلدها بالنفوذ الخارجي. كل مقاومة تسعى إلى بناء دولة تستظلها، إلا مقاومة الحزب التي تريد الغاء الدولة. كل مقاومة حقيقية تسعى إلى الحرية، إلا مقاومة الحزب التي تتمسك بالعبودية. كل مقاومة تسعى إلى العمل تحت ظل شعبها ومن أجله إلا مقاومة حزب الله التي تسعى إلى الغاء ارادة شعبها. كل مقاومة تسعى إلى نيل السيادة والاستقلال إلاّ مقاومة حزب الله التي تحارب السيادة والسياديين. فعن أي «مقاومة» يتكلمون. عن ميليشيا ربما، عن فرق مسلحة. عن أجهزة «أمنية« (خارجية) ربما. عن تقسيميين ربما. لكن أي دور يجب ان يغطيه اللبنانيون لمقاومة لا تؤمن بهم. مشروعها «الاستراتيجي» ضدهم. وضد تاريخهم. هكذا بكل بساطة يعلنون بلا لعثمة وبسلاسة المرتاحين إلى قناعاتهم: اما نحن أو لبنان. والواقع عكس ذلك تماماً: لبنان لن تستقيم أوضاعه، ولن ينعم بالحرية والسيادة والديموقراطية والتعددية والحياة الطبيعية إلا اذا تخليتم عن هذا الجنون القهري. وعن هذه النرجسيات الجماعية. وعن هذه المشاريع التخريبية. ولهذا، فان خضوع اللبنانيين سواء تحت الارهاب أو الترهيب، او الاغتيال، لمنطق «المقاومة فوق الجميع» يعني أن اللبنانيين يلغون أنفسهم. يمحون وجودهم. يخونون «لبنانيتهم» و»عروبتهم» لأن المعركة الأساسية هي بالواسطة مع منطق الحزب، لكن في العمق هي مع الاتجاهات التوسعية «الامبراطورية» للهلال الفارسي. والبيان الوزاري هو نقطة أو مرحلة من هذه الاتجاهات الخطرة التي تهدد الأمة العربية برمتها. حيثما وجد نفوذ إيراني حلّ الخراب: البحرين، اليمن، العراق، سوريا، لبنان… وربما أبعد!

ونظن أن هذه المواجهة الحالية بين الحزب وأهل الدولة اللبنانية لا تخرج عن هذا النطاق إلا شكلاً ومرحلة وتكتيكاً. وأدْمَغُ دليلٍ ما يجري في سوريا. وجود الحزب المؤتمِر بالملالي هو تعبير عن هذه التوجهات الاستيطانية، التوسعية، ومحاولة الغاء كل «مقاومة» شعبية سوريا عروبية، لتحقيق ارادتها الوطنية ومقولة أن لا لبنان من دون «المقاومة» (شرعاً وتشريعاً وتوريطاً) لا يختلف عن قول بعض المسؤولين في الجمهورية الإيرانية «سوريا هي جزء من ايران». سورية هي ولاية ايرانية«! وسبق ان صرحوا بأن العراق ايضاً ولاية من ولاياتهم وصولاً إلى لبنان فولاية الفقيه تعني بالنسبة اليهم استيطان لبنان والبحرين والعراق واليمن.. وسوريا! قالوا «انها معركة وجود» بالنسبة اليهم. وهذا حقيقي. فوجود المشروع الامبراطوري الفارسي لا يستقيم إلا بطموحاتهم التوسعية (نتذكر الصهيونية واطماعها «التوراتية» من خلال مطالبتهم باسرائيل الكبرى). من اسرائيل الكبرى إلى ايران الكبرى. وهذا لا يختلف كثيراً عن احلام روسيا (بعد الاتحاد السوفياتي): بناء روسيا الكبرى. وها هي تحتل القرم وتفصلها عن اوكرانيا وقد يمتد احتلالها إلى أجزاء كبرى من أوكرانيا وسواها بذريعة او بلا ذريعة كما حصل في جورجيا.. والشيشان) بل لا يختلف في الجوهر عن أهداف النظام السوري عندما أراد على امتداد أكثر من أربعة عقود أن يوسع نفوذه كوصاية على لبنان، وعلى الارادة الفلسطينية… بالقوة والسلاح والقتل. انها منظومات متشابهة يبنغي الا تخدعنا بعض مواقفها التزويقية، وشعاراتها الصبيانية.

ونظن ان هذا هو المعنى «الكامن»، «الرمزي» وراء وقوف 14 آذار في وجه التمادي باستخدام «المقاومة» (السابقة) لتنفيذ تدمير الدولة لمصلحة دويلة خارجية. نقول أكثر: ايّ مقاومة تدعي الدفاع عن حدود لبنان وتتواطأ (وربما تشارك) مع قصف النظام السوري مناطق آهلة في لبنان. أتراه قصف الصديق (نيران صديقة كما تفوه وزير خارجية الوصايتين عدنان منصور) يهلل له «والصديق» هو نظام لم يترك وسيلة على امتداد أربعة عقود لتدمير الدولة اللبنانية ونهب مؤسساتها وخيراتها واستلاب قرارات الشعب. إذاً مقاومة أين؟ ليؤيد الناس ادراجها في البيان الوزاري. مقاومة ستؤازر ايران حتى لو هاجمت لبنان؟ مقاومة ارتكبت 7 أيار، في قلب بيروت والجبل؟ مقاومة استخدمت مسلحيها لاسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري؟ مقاومة متهمة باغتيال الرئيس رفيق الحريري وشهداء 14 آذار؟ مقاومة متهم احد أدواتها بمحاولة اغتيال النائب بطرس حرب؟ مقاومة تؤوي الفاسدين وقطاع الطرق ومزوري الأدوية وموزعي اللحوم الفاسدة ومحرقي وسائل الاعلام (تلفزيون الجديد). ومصنعي المخدرات؟ مقاومة ترفع المتهم بقتل الرئيس الحريري إلى مرتبة «القديسين»؟ مقاومة ما زالت تستجلب السلاح الثقيل لتوجهه إلى صدور اللبنانيين، وتنصب مراكز ومواقع على الحدود اللبنانبة السورية (اتهمها البعض بقصف عرسال) مقاومة تشارك «داعش» و»النصرة». والحرس الثوري الايراني وعصابات ابو العباس، والمجرمين الذين اخرجوا من السجون «الايرانية والسورية والعراقية وألفت لهم عصابات تحت امرة مخابرات النظام بيافطات «تكفيرية» و»ارهابية» ليحاربوا بها الشعب السوري بحجة محاربة «التكفيريين» والارهابيين تماماً كما فعلوا مع العميل شاكر العبسي الذين ارسلوه إلى نهر البارد كأداة لاثارة الفتنة المذهبية وضرب الجيش. بضاعتهم نعرفها جيداً. ولم تعد تنطلي على أحد. هذا غيض من فيض ما يسمى اليوم «مقاومة». كنا وراء هذه المقاومة عندما كانت تواجه اسرائيل لتحرير لبنان منها، بكل ما نملك. اما عندما ارتدت على لبنان نفسه بسلاحها ومقاتليها لفرض ارادتها على اللبنانببن وتغيير النظام. وضرب الكيان ورهن البلد بمحوري النظامين البعثي وولاية الفقيه واقتلاع الدولة نفسها وتغيير بنية النظام وحتى جغرافية البلد وديموغرافيته، فهل يعقل لكل من عنده ذرة من الوطنية والانتماء إلى وطنه ان يوافق على منحِها من جديد غطاء لالغائه؟

هذا هو معنى رفض14 آذار (حتى الآن)؟ ادراج بند «المقاومة» في البيان الوزاري وهذا هو معنى ان تكون سيادياً واستقلالياً ودستورياً وديموقراطياً وعروبياً ولبنانياً بالقصد الانتسابي. وترفض جعل هذا البند ممراً سهلاً لمزيد من خروج حزب الله على الإرادة الجامعة.

ماذا سيحل بالبيان الوزاري، الله اعلم! ماذا سيحل بالحكومة؟ الله اعلم! ولكن الواضح ان الدولة فوق الجميع، فاذا استثني فريق ما… فيعني انتهاء كل شيء هذه المرة.

السابق
الثورة السوريّة: سنة رابعة
التالي
الحرب السورية انتقلت إلى لبنان من بوابة ضاحية بيروت الجنوبية