السُلطة و«السُلطات» اللبنانية

لغة اللبنانيين عبارة عن كلمات يكرّرونها في مناسبات باتت مشهودة: فاذا كانوا في حالة معاناة، أو عذاب من جراء غياب القوانين، أو عدم تنفيذها، أو تجاهلها… وما يجرّه هذا الغياب من فوضى وفساد عارمين، وأمن مستباح، ويوميات شاقة تبدأ بالكهرباء ولا تنتهي بالسير والطرقات الخ. في هذه الحالة يطلقون العنان لنقّهم، ويرددون، بحسرة المحروم، تلك اللازمة التي لا تفارق لسانهم، في الطالع والنازل: “وينيّة الدولة؟” (أين هي الدولة؟). فتنطلق ساعتها التحليلات العميقة والسطحية، وكلها مجمعة على أن معضلاتنا اليومية والتاريخية لا يحلها غير بناء دولة قوية. ثم بعد ذلك يتوقفون… فهم يحدسون في مكان ما من سريرتهم بأن بناء الدولة، دولة القانون، تستلزم مراجعة المعادلات الطائفية التي رسوا عليها منذ دهر.

فهؤلاء أنفسهم، المتألمون على وطنهم، التائقون الى شيء من النظام، لا يتوانون، في لحظات أخرى، عن خرق أبسط القوانين وأعظمها. وهم يشرعون في عصيانهم هذا بوعي ومن دون وعي، بحكم التأقلم مع المحيط، بحكم الفوضى الميؤوس منها، بحكم مجرد الإنتماء الى طائفة، أو زعيم… ولكنهم يفعلون فعلتهم من دون خوف من الإنكشاف ولا خطر من الموت أو خسارة الحرية أو الوظيفة أو المقام المعنوي؛ باطمئنان تام يخرقون ما يدركون انها قوانين، وان غايتها حماية المواطن، غذائه، أمنه، حياته… الخ.

لكن عندما يستدعيهم القانون الى داره، ويلقي عليهم تهمة مخالفتها، لا يعود هؤلاء الفالتون من القانون بسمونها الدولة، إنما “سلطات”. والغاية من التسمية واضحة: “سلطات” تعني كيانا جباراً. ليس سلطة واحدة، بل سلطات، والجمع هنا للتعظيم، لتوسيع نطاق او مجال بطشها؛ فتكون بذلك جديرة بأقسى درجات التظلم من ذاك الشرّ الجبار الذي هبط على المواطن البريء الخ… الغاية الضمنية، غير الواعية ربما، من هذه الهيبة المفاجئة الهابطة على الدولة مع تعميدها بـ”السلطات” هي تجاهل أمر أعظم: غايته نزع الشرعية عنها، وآيته التلّطي خلف سلطات أقوى منها، تمكنت من بناء دول بذاتها، أو دويلات: لها من السلاح والعتاد ما يرهب اسرائيل، وموزعة بين الطائفتين المسلمتين الكبريين: الأولى شيعية، أصولية، عريقة، منظمة، محكمة، قرارها ليس بيد الدولة اللبنانية، وهذا أول خرق للقانون يندرج تحته مئات من الخروقات الأخرى الناخرة لعوة الدولة المطلوبة. أما الثانية، الوليدة، فأصولية أيضاً، لكنها لا تقلّ طموحاً بالتسلح وببناء دولتها على شاكلة الاولى، الشيعية، بل بمواجهتها. تمكن رجالها من السيطرة على أحد السجون، وهم نازلوها بتهم الارهاب، ومن العبث بأمن السجن ومحيطه القريب والبعيد. وخروجهم واحدة من المسائل، بعد سوريا، التي تضغط بالسلاح والغوغاء من أجله… بالمقارنة مع سلطتهم العسكرية والدينية، المقدسة، ومستتبعاتهما المالية خصوصاً، تبدو “سلطات” الدولة هزيلة يتيمة تقاوم حتمية انهيارها التام.

لكن الأفظع من ذلك ان رجالات هذه الدولة لم يصل عدد كبير منهم إلا بقوة تلك القوى الأصولية المسلحة، القديمة منها أو الصاعدة. أكثر من ذلك: الرجالات المستقلون في هذه الدولة هم تحت سلطة القوى التي يسمونها “على الأرض”؛ لا يمكنهم تنفيذ أي مهمة تخص الدولة وقانونها من دون “تغطية” هذه القوى. وكم تبدو الرثاثة على ملامحهم عندما ينالون مظفرين شيئا من تلك التغطية، كم تبدو رثاثتهم سعيدة بلقيتها، عندما ينجحون بتحرير رهينة من عصابة تابعة لهذه السلطة المسلحة الطائفية أو تلك.

الدولة اللبنانية لا تملك الكثير من السلطة. هي ليست “سلطات” كما يتباكى المتظلمون. هي بالكاد تستمر على قيد الحياة. أنظر الى تلفزيون الدولة وتعرف: كم هو فقير، مهْمل، باهت، أمام فخامة الأقنية الأخرى، التابعة لزعماء الطوائف أو المقربين منهم. أنظر الى مبنى هذا التلفزيون واستديوهاته وتقيس به سلطة الدولة الاعلامية، بعدما ذقت مرارة الانهيارات المتتالية لسلطتها الأخرى تحت وطأة سلطة أصحاب السلاح وعقيدتهم. ساعتها لن تقول عنها “السلطات”، لن تسميها بغير اسمها، بغير غيابها وتهافتها. وسوف تلاحظ، أو انك لاحظت، بأن أقوى السلطات هي تلك التي تعجّ بها أرض الواقع، في كل لحظة من لحظات يومك أو عمرك.

السابق
LBCi: لهذه الاسباب اطلقنا ‘صرخة صمت’
التالي
الاتفاق على صيغة البيان الوزاري: حقّ المواطنين اللبنانيين في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي