ابن بطوطة على قيد الحياة: رحلة باص من الكولا إلى صور

بكاء أطفال، أحاديث نساء عُجَّز، ضحكات شبانّ يحاولون التقرب من بنات ركبن الباص للتسكع يوم السبت. وجميع الطوائف والأطراف تتّحد في الباص تحت سقفٍ من جميع الروائح الجميلة والكريهة. ثمّةَ من يأكل صحن فتوش وزوجته لا ترمقه بنظرة وابنه يحاول عناقه. عائلة سعيدة من الطبقة ما تحت المتوسطة وما فوق الفقيرة اتخذت الباص للذهاب والاستمتاع بغروب الشمس المجاني على شاطئ صيدا.

أم علي ستفقد الوعي إن لم تدخن سيجارةً الآن. لا يهمّ متى كان “الآن”. فبعد كلّ سيجارة تريد أن تشعل أخرى، وإلا ستفقد وعيها. وأعصابها تعطي أوامرها بإنزال غضبها المتراكم لقرون على سائق الباص وروّاده. وحين قدّمتُ لها سيجارةً لتهدّئ أنفاسها النافرة، شكرتني بلطف وتأملتني ملاحظةً القرط في أذني وسألتني: “إنت وين جايي؟”. فأجبتها أنني أسكن في بيروت لكنّني من أصول جنوبية وتحديداً من قرية وادي جيلو – قضاء صور. فاتسعت ابتسامتها أكثر، وكأنّها كانت تحتاج إلى خبر يريحها خلال هذا النهار الممطر، وكانت سعيدة إلى درجة أنها أقلعت عن التدخين طوال الرحلة.

نماذج يمكنها أن تثير الريبة إن لم تتكلم. من السمار الزائد إلى البياض الثلجي على وجوه الركّاب، نكسر حاجز عدم الراحة في الباص المشترك بين جميع أطياف المجتمع اللبناني بالتحادث والتعارف في رحلة مدتها ساعة ونصف الساعة إلى مدينة صور، مع نصف ساعة من الوقوف في موقف صيدا للباصات وسيارات الأجرة.
بكاء أطفال، أحاديث نساء عُجَّز، ضحكات شبانّ يحاولون التقرب من بنات ركبن الباص للتسكع يوم السبت. وجميع الطوائف والأطراف تتّحد في الباص تحت سقفٍ من جميع الروائح الجميلة والكريهة. ثمّةَ من يأكل صحن فتوش وزوجته لا ترمقه بنظرة وابنه يحاول عناقه. عائلة سعيدة من الطبقة ما تحت المتوسطة وما فوق الفقيرة اتخذت الباص للذهاب والاستمتاع بغروب الشمس المجاني على شاطئ صيدا.

4 آلاف ليرة تكفي لعبور 80 كيلومترا من العاصمة إلى الجنوب. وخلال الرحلة الخوف حتمي من زحمة السير الخانقة بسبب حواجز الجيش الكثيفة لحماية المنطقة، كلّ منطقة، من المتفجرات. وإن شك أحد العساكر بحقيبة مشبوهة كحقيبتي السوداء “المصفّحة”، فسيتمّ توقيف الباص ليخضع، هو وركّابه كلّهم، للتفتيش الكامل. وسيكرهني الجميع لجعلهم ينتظرون أكثر.

سرعة الباص كسرعة الفيراري، ولا بد من الزوربة والدوبلة للوصول إلى محطته الأخيرة بأسرع ما يمكن. والخوف، كلّ الخوف، من عقبات الطريق غير المزفّتة التي يمكن أن تؤدي إلى حوادث سير مرعبة.

كل ذلك لا يمنع هؤلاء من ركوب الباص والتوجه إلى أماكنهم المحدّدة للحصول على عطلة أسبوعية، متواضعة للبعض، وأكيال من السمك المشوي والعرق البلدي والنبيذ الأبيض للبعض الآخر، أ, بعض اللحم المشوي هنا، أو البطاطاو المجدّرة الجنوبية هناك..

تجربة الباص هي التجربة الأصدق والأكثر شبها والأجمل… للوصول إلى وحدة وطنية حقيقية، وسلم أهلي صادق.

السابق
تركيا هددت بالرد في حال التعرض لضريح تاريخي عثماني في سوريا
التالي
روسيا: أول إنزال جماعي لسلاح المظليين في القطب الشمالي