هل أصبحت قطر من الماضي؟

تعد حادثة سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من قطر قبل أيام خطوة غير مسبوقة في تاريخ “مجلس التعاون الخليجي”، الذي يضم الدول الأربع بالإضافة إلى الكويت وسلطنة عُمان. كانت التوازنات الإقليمية حاضرة في بذرة تأسيس المجلس المذكور وعلة وجوده، ويشي تاريخ التأسيس (1981) بمخاوف دول الخليج العربية من التداعيات المباشرة للثورة الإيرانية العام 1979، والحرب العراقية – الإيرانية الممتدة بين عامي 1980 و1988. منذ تأسيسه وحتى اليوم، يعد “مجلس التعاون الخليجي” أكثر المجالس العربية تجانساً وفعالية لخدمة أغراض تأسيسه، فالدول الأعضاء فيه يجمعها إطار واحد من المصالح السياسية والتحالفات الدولية والتخوفات الإقليمية، وتتباين في ما بينها في المساحة الجغرافية والكتلة السكانية. يعد المجلس درعاً تمثل الدول الأعضاء في مواجهة التأثيرات الدولية والتطورات الإقليمية التي تهدد أنظمته الحاكمة المحافظة، تلك التي تتشابه في تركيبتها إلى حد بعيد. لكل هذه الأسباب يختلف “مجلس التعاون الخليجي” عن “جامعة الدول العربية،” التي تضم دولاً من المحيط إلى الخليج ونظماً سياسية من الملكية وحتى الجمهورية، وتعج فيها إرادات ومصالح وتحالفات ومستويات معيشة لا تعرف إلى التجانس الخليجي سبيلاً. وإذ عرفت الجامعة العربية في العقود الأخيرة مشادات وسجالات ومهاترات خرجت إلى العلن، فإن الحال لم يكن كذلك في مجلس التعاون الخليجي لكل الأسباب الواردة أعلاه. الآن، ومع قرار سحب السفراء، تظهر الخلافات بين الدول الأعضاء في “مجلس التعاون الخليجي” إلى العلن، وتصل إلى حد عزل قطر عن عضوية المجلس بقرار مباشر وحملة إعلامية مكثفة.

وإذ تحاول بعض وسائل الإعلام تسويق خطوة سحب السفراء من الدوحة باعتبارها “تضامناً خليجياً مع الشقيقة مصر”، على اعتبار أن الخطوة تهدف إلى عقاب قطر لدعمها جماعة “الإخوان المسلمين”، إلا أن الأزمة الخليجية مع قطر لا يمكن إرجاعها فقط لدعم الأخيرة الجماعة – وهو أمر ثابت وراجح على كل حال -، إذ إن البعد الإقليمي واضح في سحب السفراء الخليجيين من قطر، مثلما كان البعد نفسه واضحاً في علة وجود وتأسيس “مجلس التعاون الخليجي” عام 1981.
قطر تتقدم
برعت قطر خلال العقد المنصرم في استغلال الفراغات التي عرفها النظام الإقليمي العربي، فتقدمت سنة وراء أخرى لشغل هذه الفراغات باستخدام قناتها الفضائية، والشبكة المعقدة التي ربطتها بالحركات السياسية العلنية والسرية في المنطقة تحت غطاء قناة «الجزيرة»، فضلاً عن استقطابها لشخصيات إشكالية من اليمين وحتى اليسار مثل الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور عزمي بشارة. وفي الوقت الذي كانت فيه أبواب السياسة الأميركية في المنطقة مفتوحة على مصراعيها منذ عقود خلت في الرياض والقاهرة، فقد كانت هذه الأبواب في الدوحة مفتوحة أيضاً ولكن على استحياء. وبسبب فقدان النظام العربي للخيال السياسي ومرونة الحركة والأفكار وغياب المشروع، فقد غدت “قناة الجزيرة” منذ تأسيسها بمنتصف التسعينيات موئلاً لحركات المعارضة العربية، وأصبحت الدوحة منصة إطلاق طموحات سياسية قل نظيرها. وعرفت السنوات الأخيرة جدلية تشبه الظاهرة الطبيعية: “كلما تراجعت أدوار القاهرة والرياض، تقدمت أدوار الدوحة”. ولترسيخ دورها المغاير للسعودية ومصر، فقد اقتربت قطر من إيران و”محور الممانعة” في السنوات الواقعة ما قبل “الربيع العربي”، بالطبع مع البقاء تحت المظلة الأميركية. جمعت قطر وقتذاك الحسنيين في براعة لافتة، إذ جلست في صفوف “مجلس التعاون الخليجي” وفي الوقت ذاته حصدت الشكر على تعاونها الإقليمي من لبنان وسوريا وإيران.

شكل “الربيع العربي” منصة إطلاق لأدوار قطر الإقليمية، التي لم تعد تكتف بـ “شكراً قطر” والمسافة الواضحة التي فصلتها عن الرياض والقاهرة في الشؤون الإقليمية، وإنما أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حلف جديد في المنطقة بالاشتراك مع مصر الإخوانية وتركيا، والأخيرة حلت محل إيران في شبكة العلاقات الإقليمية القطرية. وبدا للوهلة الأولى أن الرهان القطري على “الإخوان المسلمين” قد أصاب هدفه، وأن الدوحة تتمدد في طول وعرض المنطقة مع انخراطها العسكري في ليبيا، وانخراطها السياسي والإعلامي والمالي والتسليحي في سوريا، في محاولة للقفز على قدراتها الجغرافية والسكانية. ولكن دوام الحال من المحال كما يقول المثل العربي البليغ، وهو ما توقعناه هنا قبل سنة ونصف من الآن (السفير في 30/7/2012: “قطر أحلام كبيرة وقدرات محدودة”).
قطر تتراجع
تولت قطر بالفعل مكانة قيادية في التحالف الجديد المتشكل في المنطقة (تركيا ومصر الإخوانية وتونس النهضوية وحركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا وسوريا)، متجاوزة في السياق الإقليمي المذكور دولاً تفوقها حجماً بأكثر من مئتي مرة مثل السعودية. ولكن صغر رقعتها الجغرافية ومحدودية كتلتها السكانية – وهي أمور لا تعيب أحداً – منعاها من تلبية طموحها العارم للقيادة الإقليمية. ومع سقوط الدكتور محمد مرسي وجماعة “الإخوان المسلمين” في مصر، انكسر التحالف السني الثاني الذي انضوت فيه قطر، وشكل ذلك فرصة سانحة أمام النظام الخليجي الرسمي بقيادة السعودية لتقليم أظافر تركيا وأردوغان ومعاقبته على طموحه الإقليمي في المنطقة العربية، والآن يحين الدور على قطر.
تمثل جماعة “الإخوان المسلمين” خطراً على نظامي الحكم في السعودية والإمارات، وبالتالي يمثل الدعم القطري للجماعة تهديداً للنظامين السياسيين في الرياض وأبو ظبي. كان ذلك الأمر قائماً خلال السنوات الماضية ولم تحدث مثل هذه الخطوة، ولكن اختيار التوقيت الآن بسحب السفراء يشي بسياق إقليمي ودولي مغاير. وعلى العكس من الاتفاقات الهادئة مع صناع القرار من وراء الكواليس – وهي السياسة المفضلة تاريخياً لدى السعودية – فقد دوت وسائل الإعلام العربية بخبر سحب السفراء، في محاولة علنية لتقليم أظافر قطر عبر إظهار “عزلتها الخليجية”. وبديهي أن الدول المعزولة، المهددة بإغلاق المجال البري والجوي والبحري، لا يمكنها لعب أدوار إقليمية وإنما منتهى أملها تخفيف الحصار الديبلوماسي عليها، وهو الإطار السياسي الجديد الذي تريد الرياض حبس قطر فيه. هنا يحضر المتفكر في جدلية الصعود والهبوط القطرية تلك المقولة العربية البليغة: ما طار طير وارتفع… إلا كما طار وقع!
الخلاصة
ترسل السعودية بقيادتها السياسية والإعلامية لسحب السفراء الخليجيين من الدوحة رسالة إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما المتوقع أن يزورها خلال أسابيع قليلة، مفادها أن عنوان القرار الخليجي لم يتغير (أي الرياض)، وأن الصعود القطري في أعقاب “الربيع العربي” أصبح جزءاً من الماضي. ويتمثل الدافع الثاني للحملة التي تقودها السعودية ضد قطر في تقطيع الوقت حتى اتضاح صورة المفاوضات الإيرانية – الأميركية، باستعادة المساحات والهوامش التي فقدتها خلال السنوات الماضية في الإطارين الخليجي والعربي لمصلحة قطر، لا سيما أن الحسم في سوريا ما زال بعيداً عن متناول السعودية، مثلما هو حال تعديل التوازن السياسي في العراق.
لا يخفى أن سلطنة عُمان عارضت في وقت سابق علناً توحيد دول المجلس، ولم تشارك الدول الخليجية الثلاث في خطوة سحب السفراء من الدوحة، وعلى مسافة قريبة منها تقف الكويت. كلا البلدين العربيين له حسابات تتعلق بالموقع الجغرافي ومتطلباته، وتحفظات تتعلق بطريقة صنع القرار الخليجي واستحقاقاته الإقليمية. ومع التمايزات الممكن تصورها بين الدول الست الأعضاء في “مجلس التعاون الخليجي”، فالراجح لكل ذي عينين أن الدول الست من دون استثناء تخشى على أنظمتها من الهزات الارتدادية للثورات العربية، حتى وإن انقسمت ظاهرياً بين مؤيد لـ”لإخوان” كقطر، أو معادٍ لهم كالسعودية والإمارات والبحرين، أو لائذ بالصمت كعمان والكويت.
لم يعد “مجلس التعاون الخليجي” على حاله بعد سحب السفراء الخليجيين من الدوحة، والتلويحات الخليجية بتوسيع نطاق العضوية فيه بضم دول أخرى من خارج منطقة الخليج إليه، تعني أن كامل المنظومة الخليجية في لحظة تحول راهناً!

Insert
ومع التمايزات الممكن تصورها بين الدول الست الأعضاء في “مجلس التعاون الخليجي”، فالراجح لكل ذي عينين أن الدول الست من دون استثناء تخشى على أنظمتها من الهزات الارتدادية للثورات العربية، حتى وإن انقسمت ظاهرياً بين مؤيد لـ”لإخوان” كقطر، أو معادٍ لهم كالسعودية والإمارات والبحرين، أو لائذ بالصمت كعُمان والكويت.

السابق
خمسة جرحى على طريق صور الناقورة
التالي
جراحة السمنة: معايير ومحاذير