لولا المقاومة لكان لبنان مثل قبرص، قالها ضيف تلفزيوني باحتقار!

برص تافهة حسب معايير صاحب الوجه التلفزيوني، الطفولي. وتفاهتها أن لا نصراً إلهياً يكلل تاريخها، ولا 7 أيار مجيدة تزين ذاكرتها. مجرد جزيرة هانئة يؤمّها الناس من كل حدب وصوب لقضاء العطلات والنقاهة والترفيه. يا للخزي. ما من أحد في قبرص يموت فداء لحذاء. بلاد بلا كرامة.

بوجهه الطفولي ونبرته الدمثة وحضوره اللطيف، وعباراته المهذبة، التي لا تخلو من اللؤم والعناد، كان «المحلّل» الصحافي ضيفاً تلفزيونياً صباحياً، بوصفه أحد المقربين من «حزب الله»، وهو شقيق أحد نواب الحزب، و»الخبير» العليم بسياسات هذا الحزب ومواقفه، والذي بات محترفاً في طلاته الإعلامية على الفضائيات العربية والمحلية.

شاهدت 30 ثانية من تلك الفقرة الصباحية، ثم أطفأت التلفزيون يأساً. في تلك الثواني الثلاثين قال هذا الصحافي بلهجة استعلائية محتدّة: «لولا المقاومة لكان لبنان مثل قبرص، مجرد منطقة جغرافية تعيش فيها مجموعة من السكان، ولا أحد يسمع بها».

كان من الواضح أن سياق الحديث هو تبرير تطاول «حزب الله» وترهيبه لرئيس الجمهورية اللبنانية، وضمناً التطاول على الدولة ومؤسساتها ودستورها. وهنا، لا يهم التطاول المعتاد، ولسنا في صدد الذود عن رئيس الجمهورية، ولا يستوقفنا في هذه المقالة سلوك «حالش»، كما بات السوريون يسمون الميليشيات الشيعية التي تقاتل في سوريا. المهم هو تلك الفكرة التي نطق بها المعلّق الدمث، بشفاهه المكتنزة، وبصوته الدافىئ. تلك الفكرة التي تستهزئ بقبرص وتحقّر شأنها مقابل التعظيم من «لبنان المقاومة»، كما يتخيله الشيخ نعيم قاسم والنائب محمد رعد، ويعمل عليه حسن نصرالله وصحبه، ويروج له أمثال هذا الصحافي.

 لولا المقاومة لكان لبنان مثل قبرص. هذه الجزيرة الصغيرة، جارتنا، التي كانت حتى وقت قريب بلداً فقيراً وريفياً مضجراً، تعتاش في كنف الفضاء اليوناني، باقتصاد هزيل ومتواضع، انضمت إلى الإتحاد الأوروبي عام 2004، وبات نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي نحو 29 ألف دولار، فيما مؤشر التنمية البشرية عال جداً (المرتبة 31 عالمياً). لا يوجد في قبرص ميليشيات مسلحة خارج الدولة، كما لا تتصدر قبرص نشرات الأخبار، إذ لا تحصل فيها اغتيالات لشخصيات سياسية، ولا تفجيرات انتحارية، ولا إطلاق صواريخ عبر الحدود. وليس فيها بؤر أمنية محظورة على السلطات الرسمية. لا أحد يسمع بقبرص على نحو ما يحدث للبنان الذائع الصيت. فالحياة هناك «عادية»، مستقرة. الناس يعيشون يومياتهم كما سائر البشر في هموم روتينية لا يعكرها اشتباك مسلح ولا عبوة ناسفة ولا عمليات قتل ولا تهديد دائم بحرب شاملة، ولا بانهيار الدولة وتعطيل مؤسساتها. في قبرص لا يوجد من يرفع إصبعه متوعداً الناس بالويل وعظائم الأمور والغضب الناري. ما من أحد في قبرص يريد تدمير أميركا وإسرائيل وأوروبا ومقاتلة الدول المجاورة جميعها، وتغيير الأنظمة السياسية في تركيا والعراق والأردن ومصر والبحرين واليمن والسعودية. ما من حزب في قبرص يرسل آلاف الشبان للموت دفاعاً عن ديكتاتور. لا شيء من هذا في قبرص البائسة، الخالية من «المقاومة».

الحظ التعس لقبرص أنها تفتقد على نحو فادح للكرامة والعزة، إذ ترضى أن تكون وديعة، مسالمة، منضوية في المنظومة الأوروبية وخانعة لشروطها، تعتاش على ذل «السياحة» والخدمات والصناعات الغذائية… وليست مشهورة بالزراعات الممنوعة (كحشيشة الكيف والأفيون) ولا بالصناعات المشبوهة(حبوب الكابتاغون). قبرص بلا «مقاومة«، ليس فيها تنظيم واحد على لائحة الإرهاب الدولية، ولا حتى محاكمة دولية خاصة بها كما هو امتياز لبنان. والأسوأ من ذلك، أن قبرص التي تعرضت عام 1974 لاجتياح عسكري تركي، احتل قسمها الشمالي، حيث تقطن الأقلية التركية القبرصية، لم تنشئ مقاومة مسلحة لطرد الجيش التركي، تحاشياً لحرب أهلية لا نهاية لها ولا أفق، فركنت إلى «الأمم المتحدة» وإلى مبدأ التفاوض والسياسة الدبلوماسية، وإلى مسار بطيء يخرج قسميّ الجزيرة من ماضيهما القومي الشوفيني، ومن ذاكرتهما الإعتصابية الدينية (مسلمين ومسيحيين). خيار قبرص الصعب هذا جنّب الجزيرة الوقوع في المأساة والدمار. لقد قبل القبارصة ذلّ العيش بسلام على عنفوان الموت بحرب. يا للعار.

وحدها «المقاومة» وضعت لبنان على سكة الشهرة والسمعة العالمية. إسم لبنان يتردد دائماً في كل نشرات الأخبار، بفضلها وبسبب أعمالها البطولية وجبروتها المتعاظم. ولولاها لكنّا نسياً منسياً. لولا إنجازات تلك المقاومة لكان لبنان بلداً لا يستحق سطراً في جريدة. كل من يتنكر لهذا هو جاحد حقود، وعميل وخائن.

في لحظة سكون قبرص وسكوتها على مصيبتها، في منتصف السبعينات، كان لبنان المزدهر والحديث، والمتطور في تنميته أضعاف ما كانت عليه حال تلك الجزيرة آنذاك، لقد اختار الحرب الأهلية وسيلة لحل نزاعاته الأهلية وسبيلاً لإصلاح نظامه السياسي، والأهم أن هذه الحرب المدمرة التي أطاحت بعمرانه، كانت افتداء لبنان من أجل «حماية المقاومة والدفاع عن عروبته». وبمعنى آخر، كانت من أجل التنازل عن السيادة الوطنية في سبيل حرية المنظمات الفلسطينية المسلحة في شن حرب عصابات مفتوحة ضد إسرائيل من جهة، وإلحاق لبنان بمحور «جبهة الرفض» التي ستصير لاحقاً «جبهة الصمود والتصدي» وتتحول فيما بعد إلى محور «الممانعة». من أجل «المقاومة» سار لبنان في درب الجلجلة الطويل. هكذا، شرعت «المقاومة» حدود لبنان على الإجتياحات الإسرائيلية مراراً وعلى الإحتلالات المتعددة. «مقاومة تحمي لبنان» باستجلاب حروب الآخرين أولاً، وباستدامة أسباب الحرب الأهلية ثانياً، وبتدميره تكراراً، ومقتل عشرات الآلاف من سكانه، وتشريد وتهجير مئات الآلاف مرة تلو مرة. بل هي أيضاً «المقاومة» التي باسم الكرامة والعنفوان والقدس والعروبة، أجّلت وأخرت ومنعت ومانعت جلاء المحتلين المختلفين، أكان ذلك بالمفاوضات أو الإتفاقيات المرعية دولياً، بل أن الإنسحاب الإسرائيلي عام 2000 بدا وكأنه تم بـ»مؤامرة» على «المقاومة» وراعيها الحلف الإيراني – السوري. كذلك فإن جلاء الجيش السوري تم رغم ممانعة «حزب الله» الشديدة وغضبه العلني.

شهرة لبنان وتصدره أخبار العالم، أتت بجهود «المقاومة» منذ الثمانينات، مع التفجيرات الإنتحارية وخطف الطائرات وخطف الأجانب وتفجير السفارات، وتسعير نار الحرب الطائفية ومذابحها، ثم الإنقضاض على جماعات «المقاومة» السابقة اليسارية والفلسطينية والقومية، تصفية وإفناء، وتقويض الدولة وإستباحة البلد لوصاية سورية تؤمن جسراً للحرس الثوري الإيراني إلى لبنان ليقارع منه الإمبريالية الأميركية والعالم بأسره، حتى رسى لبنان على خرابه وانحطاطه وفقره وتقهقره إلى ما قبل المدنية، وبات أهله بلا مطار ولا مرفأ، يذهبون إلى قبرص ما غيرها، طمعاً في طريق للسفر وللهروب من الجحيم.

قبرص تافهة حسب معايير صاحب الوجه التلفزيوني، الطفولي. وتفاهتها أن لا نصراً إلهياً يكلل تاريخها، ولا 7 أيار مجيدة تزين ذاكرتها. مجرد جزيرة هانئة يؤمّها الناس من كل حدب وصوب لقضاء العطلات والنقاهة والترفيه. يا للخزي. ما من أحد في قبرص يموت فداء لحذاء. بلاد بلا كرامة.

السابق
نزاع بين الأمن الداخلي والجيش في صيدا؟
التالي
الشيخ محمد حسين الحاج: عباس إبراهيم رجل الوطن والإنسانية