ما لم تقُله فاطمة عن أخيها الذي ‘مات’ عندنا

لعلها المرة الأولى التي ترثي فيها أخت لأحد مقاتلي «حزب الله» أخاها من موقع الاختلاف، الرثاء المنشور في صحيفة «النهار» بتوقيع فاطمة عبدالله (5 آذار- مارس 2014) حظي فوراً باهتمام واسع وبتعليقات كثيرة على موقع الصحيفة، وتعرض لتسييس وتجاذب ربما لم تُردهما صاحبته من خلال نشرها له.

الصورة المصاحبة للنص تُظهر الأخ الراحل على شاحنة مقاتلة تحمل رشاشاً ثقيلاً، وليس معلوماً أين التُقطت الصورة، لكن مكمن القوة فيها، كما أراد صاحبها أو مَن التقطها للمقاتل، أن يظهر في المقدمة، لا خلف الساتر الواقي الذي تطل منه فوهة الرشاش. أشجار الصنوبر في الخلفية لا تضيف شيئاً عن المكان غير أنها تؤنسن الصورة بما يليق بالرثاء.

من شأن ما كتبته فاطمة عبدالله إثبات ما نعرفه جميعاً. فبخلاف الانحياز السياسي أو الأخلاقي، فإن للمتحاربين في كل مكان إخوة وأخوات وأمهات وآباء يذرفون الدموع عند مقتلهم أو إصابتهم بالأذى. التحزب الأعمى وحده يجعلنا ننسى هذه البديهة، أو ربما تدفعنا شدة ما يصيبنا من الأذى إلى تمنّيه للآخرين أو الشماتة بهم. في الواقع لا تقول فاطمة شيئاً عن الأذى في الطرف الآخر، وليس مطلوباً من أخت ثكلى تذكّر المصائب المشابهة التي يُرجّح أن يكون أخوها ساهم فيها باختياره ووفق قناعاته. مهلاً، من يجزم بأن ذلك ليس مطلوباً من نص يزعم تنحيته للخلاف السياسي بين شقيقين لمصلحة ما هو إنساني محض؟ أليست للطرف الآخر، في سورية حيث ذهب ذلك المقاتل، حصة مما هو إنساني مجرد عن التحزب؟

وفق ما تورد الكاتبة، يومان فقط مرّا بين ذهاب أخيها إلى سورية وعودة جثمانه منها. تلك إشارة قد تدلل إلى احتدام المعارك التي يخوضها «حزب الله» وإلى حجم خسائره البشرية. الكاتبة غير معنية بهذا التفصيل إلا من الناحية الشخصية، من جهة إحساسها بالفقد. ولأن الرمزيات غير المُفكّر فيها لا تغيب حتى في الرثاء، نراها تتوقف لتسقط دمعتها على إحدى قدميه اللتين سارتا به نحو النهاية. النص صريح في هذا السياق، إذ تطلب الكاتبة العفو لأنها لمست القدم قبل الرأس مُبرِّرة فعلتها بتحميل الأقدام مسؤولية الذهاب، أو بالأحرى مُعفية الرأس (الدماغ) من مسؤوليته عن قرار الذهاب.

كان من الأفضل، وأدعى إلى التعاطف، لو انطلقت الكاتبة من موقع ثقافي معاصر يرفض التمايز الأخلاقي التقليدي بين ما هو «أعلى» و «أدنى» في الجسد، إلا أن اعتذارها عن لمس القدم أولاً يصبّ في المنحى التقليدي، ويجافي الحزن غير المُفكَّر فيه، الحزن الذي لا يقيم وزناً للتراتبيات المعهودة. وفق ذلك سيكون من باب التصالح السياسي الرمزي أن تعود في خاتمة الرثاء للتشديد على أنها «تقبّل قدميه اللتين اختارتا طريقهما» وأن تقبّل حذاءه «الذي تركوه لنا».

إن تأويلاً عديم الرحمة لهذه العبارات لا بد من أن يسترجع ما ساد أخيراً من حماسة سياسية تجد منتهاها في عبارات من نوع «فدا صرماية» فلان أو فلانة… ومع أن صاحبة النص تضع نفسها أولاً في موقع مختلف عن أصحاب تلك المقولات، فإن اللغة بحمولتها الموروثة تخونها، أو ربما هي العواطف تجرفها وتخلخل التوازن الذي حاولت البناء عليه.
لطالما أشاعت الأدبيات النسوية المعاصرة أن الحرب شأن ذكوري، وأن النصيب الأكبر من الخسارة يقع في جانب النساء والأطفال الذين يفقـــدون أحبّتهم وأحياناً معيليهم. تلك قراءات تعيد في أحد جوانبها الاعتبار إلى العواطف مقابل ما يجري توصيفه كعقل ذكوري أيضاً.

في الواقع، لا تغيب القسمة السابقة إذ يُنظر إلى ردود فعل الأم أو الشقيقة «النساء عموماً» على فقدان الأبناء المقاتلين كمشاعر تحظى بالتعاطف، وأحياناً بالاحترام، على أن تبقى هامشية وغير مؤثرة في مسار الأحداث والحروب. التسامح مع «الفائض» العاطفي يأتي من التسامح مع ما يعتقد أنه طبيعة أنثوية خاصة، وقد لا يغيب أيضاً عن حسبان الذين يودّون جرّ نص كالرثاء هذا إلى مقلب مواقفهم السياسية. مدائح، من نوع «الجرأة» و«الشجاعة» و «انظروا… أخيراً هناك مَن يتكلم»، قد تحمل في طياتها ما لا يحتمله النص من جهة، ومن جهة أخرى تتسامح معه ليسهل تسييسه على النحو الذي يخدم أصحاب المدائح.

أن يُحتفى بهذا الرثاء بعدّه اختراقاً، في بلد يوصف عادة ببلد الحريات، أمر يستوجب التوقف حقاً. فأولاً لا نجد ندرة في النصوص اللبنانية التي تنتقد تورط «حزب الله» في سورية، ولا يمكن أيضاً الزعم بأنه الانتقاد الأول الذي يصدر عن أحد أبناء الطائفة الشيعية. يبقى أنها المرة الأولى التي يصدر فيها الكلام عن أسرة أحد قتلى الحزب. والحق أن العواطف الحاملة للنص تخفف إلى الحد الأدنى من نقديته ولا تضعه في تصادم فعلي مع سياسة الحزب وينبغي أن تكون معروفة أصلاً، اللهم باستثناء من يبطن صورة نمطية لعائلات القتلى تجرّدها من المشاعر، صورة لا تختلف عن التي دأب إعلام الحزب على ترويجها.

إذاً، السؤال الذي حريّ بالمعنيين الإجابة عنـــه: إلى أي حــد بلغت هيمنة «حزب الله» بحيث يؤخذ نص كهذا من موقع الحزن الإنساني الطبيعي إلى موقع التجرؤ السياسي؟
بالعودة إلى نص الرثاء، ربما يكون ما لا يُفصح عنه هو الأهم، أو هو الذي يمنح النص خصوصيته. هنا محك آخر مختلف للجرأة. فالـــكاتبة عندما تشير إلى وجع أمها الثكـــلى، تقطع العبارة بمخاطبة أخيها: «أدرك جــــيداً أنك منذ كنت طفلاً وأنت تشعر بالذنب تجـــاهها وتجاهنا»، ثم في مكان آخر تخاطبه «ذنبي تجاهك يقتلني»، غير أنها لا تفصح عن ماهية الشعور بالذنب متعللة بأن «الظرف ليـــس مناسباً للهلوسة». في ظرف ثقافي مغاير لظـــروف بلداننا ربما كنا سنقرأ رثاءً بليغاً في هـــذا المطرح تحديداً، فأي ظرف يكون مناسباً للتـــعرية و «الهلوسة» أكثر من صدمة الموت؟ وأيـــة مشاعر أعقد وأغنى من الحزن على أولئك الأحبّة عندما لا ينجح الموت في مصالحتنا مع خياراتهم وانحيازاتهم لما كانوا أحياء؟

السابق
مصادر الحريري ل” الحياة”: التصويت على البيان الوزاري خيار جدي
التالي
الأسد: البعث متماسك وتخلّص من الانتهازيين