عن شعار: «كل السلطة للمقاومة»

لن ينتهي النقاش بشأن المقاومة المسلحة، أو بشأن أية قضية أخرى شغلت الفكر السياسي العربي طوال عقود ما بعد الاستقلال، وذلك لسبب بسيط مفاده غياب السياسة في العالم العربي، وضعف علاقات المشاركة، وتدني الوعي بالمصالح والأولويات والحاجات، لمصلحة سيادة لغة الشعارات واليقينيات والمقدسات.
وفي الواقع، فقد تشكّل الوعي السياسي العربي على أساس «ثوابت» أضفيت عليها قيم هوياتية ووجودية، بحيث باتت، في معظم الأحوال، لا تخضع للمساءلة والتقويم والمراجعة، ولا لحسابات الجدوى والكلفة والمردود، كونها أُخرجت من حقلها السياسي ليتم التعامل معها بوصفها مقدسات أخرى، وهو ما ينطبق على المقاومة المسلحة تحديداً.
هكذا عاش الفلسطينيون ردحاً طويلاً من الزمن على شعارات: «النظرية السياسية تنبع من فوهة البندقية»، و «كل السلطة للمقاومة»، و «هويتي بندقيتي»، و «السلطة السياسية تنبع من فوهات البنادق». لكنهم في غضون انشغالهم المشروع بالثورة على واقعهم وجوعهم لـ «الثأر» من عدوّهم لم ينتبهوا إلى ضعف إمكاناتهم، ولا إلى وضعية النظم السياسية المحيطة بهم. كما أنهم لم ينتبهوا إلى أن عدد البنادق، وطبيعة من يحملون هذه البنادق، لا تقررهما عدالة قضيتهم، ولا مشروعية كفاحهم، وإنما عوامل أخرى ليست لها علاقة بنيّاتهم، فضلاً عن أنها في الغالب ليست في متناول أيديهم.
وأساساً، فإن الفلسطينيين لم ينتبهوا إلى أن المقاومة المسلحة ليست عملاً سهلاً، أو متيسّراً، أو مسموحاً به لهم أو لغيرهم، إذ إن هذا الأمر بحاجة إلى قرار سياسي، وإلى حسابات تتعلق بالاستثمار في الموضوع الفلسطيني، على الصعيدين الداخلي والخارجي، لا سيما في منطقة تسود فيها أنظمة تسيطر على مواطنيها وتحرمهم من الحقوق والحريات ومن المشاركة السياسية.
من جهة التفاصيل، فإن وجود مقاومة كهذه بحاجة إلى أنظمة تغدق عليها الدعم المالي، لتغطية موازناتها ومخصّصات ألوف المتفرّغين فيها، وبحاجة إلى أنظمة أخرى تؤمّن السلاح لها وتغذّي ترسانتها باستمرار. وأخيراً، فإن ذلك يحتاج إلى أنظمة تسمح بوجود قواعد عسكرية للمقاومة على أراضيها، مع كل ما ينجم عن ذلك من تبعات وتداعيات.
الآن، وطالما أننا نتحدث عن أنظمة، فهذه بالتأكيد لا تشتغل كجماعات ثورية ولا كجمعيات خيرية، ما يعني أن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، وبغض النظر عن نياتها، قبلت الانخراط في لعبة الدول، وحساباتها وصراعاتها وتوظيفاتها، إلى هذه الدرجة أو تلك، حتى ولو تعلق هذا القبول بمراهنة هذه القيادة على إمكان توسيع هامشها. ومعلوم أن الاتكاء على مراهنة، أو فهلوة كهذه، لم يكن ناجحاً دوماً، كما لم يكن بالمجان، إذ إنه ادخل الفصائل الفلسطينية في حساسيات وصراعات واحترابات ضيّعت، أو همّشت، معنى المقاومة، والأهم أنها دفّعت الفلسطينيين أثماناً باهظة من حياتهم ومن استقرارهم. فوق ذلك فقد نجم عن هذا الأمر ارتهان الحركة الوطنية الفلسطينية في مواردها إلى الخارج بدلاً من تأسيس ذاتها بالاعتماد على الموارد المتأتّية من شعبها، مع ما في هذا الارتهان من محددات وقيود وتوظيفات.
ولعله ليس من قبيل الصدف أن المقاومة الفلسطينية المسلحة لم تنطلق من بين فلسطينيي 48، ولا من بين فلسطينيي الأراضي المحتلة في 1967، إذ لم يعتمد هذان التجمعان المقاومة المسلحة، وإنما أشكال المقاومة الشعبية وضمنها الانتفاضة. ايضاً، فإن هذه المقاومة لم تنشأ نتيجة الحراك السياسي وسط تجمعات اللاجئين في الأردن وسورية ولبنان، وإنما انطلقت من الأردن وسورية ولبنان، وقتها، وفق معادلات عربية معينة، سمحت بوجود الفصائل وبالتالي قواعد المقاومة المسلحة، وأمّنت لها حاجاتها ومتطلباتها.
عموماً فقد ترتّب على كل ذلك أن الحركة الوطنية الفلسطينية ذهبت إلى المقاومة المسلحة مباشرة، ودفعة واحدة، من دون ممهدات سياسية، وقبل ان تبني مؤسساتها الوطنية وإطاراتها التشريعية، وحتى من دون أن تأخذ بخط التدرّج الطبعي بأشكال عملها النضالية؛ هذا أولاً.
ثانياً، أن القيادة الفلسطينية ذهبت الى العمل المسلح وفق رؤية مسبقة مفادها أن هذا ما ينبغي القيام به، قبل أي عمل آخر، بغض النظر حتى عن مدى استعداد الفلسطينيين أنفسهم لحمل هذا الشكل الكفاحي، وقدرتهم على تأمين متطلباته وتحمل تبعاته وكلفته.
ثالثاً، أن المقاومة الفلسطينية، وبسبب من نشأتها هذه، وشيوع عقلية تقديس الكفاح المسلح، لم تنتج تجربتها الخاصة، المبنية على المراجعة النقدية، لأن التقديس ينبني على الإيمان، ويتناقض مع المساءلة والمحاسبة.
رابعاً، أن محصلة كل ذلك تجلت في طغيان شكل المقاومة المسلحة على مجمل بنى العمل الفلسطيني وخطاباته وعلاقاته إلى حد أنها لعبت دوراً كبيراً حتى في صوغ الهوية الوطنية والكيانية السياسية للفلسطينيين، وفي رؤيتهم لذاتهم كشعب.
الآن، وبحكم كل هذه المحددات، يبدو من الطبيعي أن تتحول المقاومة إلى سلطة في كل أماكن وجودها، فهي نشأت منذ البداية كمشروع سلطة في مجتمعاتها، وكنظام مثلها مثل الأنظمة القائمة. هذا يفسّر أن تركة هذه المقاومة في مخيمات فلسطينيي لبنان اقتصرت على مجرد ميليشيات، تخضع لتجاذبات وتوظيفات متباينة، بواقع عدم وجود أية مؤسسات ثقافية أو تربوية أو مدنية.
وقد شهدنا في الضفة وفي غزة تحول المقاومة إلى أجهزة أمنية، هدفها حماية السلطة القائمة، والتحكم بالمجتمع، بعد أن أقرت بالعجز عن مصارعة العدو. والمشكلة أن كل ذلك يجرى في وقت ما زالت فيه خطابات الفصائل تتغنى بالكفاح المسلح، وما زال فيه هذا الشكل يحتل الوعي السياسي للفلسطينيين.
طبعاً، هذا يشمل أيضاً تجربة المقاومة في لبنان، التي تمثلت بـ «حزب الله»، الذي احتكر المقاومة، واختزل مجالها الوطني، بمنعها حتى عن حلفاء له كالحزب القومي السوري، وبرفضه اخضاع جدواها وشرعيتها للنقاش العام، على رغم أن تبعاتها وتداعياتها تمسّ كل اللبنانيين. وفي المحصلة، فها هو هذا الحزب يسخّر هذه المقاومة لأغراض سلطوية وطائفية في لبنان، ولخدمة السياسة الإقليمية لإيران، التي تقف وراءه. والأنكى أنه بات يصرّف فائض قوته في سورية دفاعاً عن نظام استبدادي، حرم شعبه الحرية، بدعوى المقاومة، التي توقفت منذ 14 عاماً (عام 2000)، باستثناء عملية خطف الجنديين الإسرائيليين (2006)، والتي استدعت حرباً مدمرة دفع ثمنها لبنان غالياً.
هكذا، ما زال ثمة من يتغنى بشعار «كل السلطة للمقاومة»، ويتبرّم من اي مناقشة لهذا الأمر، على رغم أن المقاومة انتهت وباتت مجرد سلطة!

السابق
السعودية تعتبر الاخوان والحوثي وحزب الله في الداخل منظمات ارهابية
التالي
‘رمزي’ مراسل ‘القاعدة’ يروي لـ ‘الحياة’ قصة تجسسه 9 أعوام على بن لادن ورفاقه