إلى المقتولات في عيدهن

إنه يوم حزين. كيف لا ولا أفكر سوى بالمقتولات. ماذا لو خرجت المقتولات من قبورهن… وعدن يطالبن بالثأر. تعود رولا ومنال وكريستيل ونساء اخريات لم تصل اسماؤهن الينا. تعود كل واحدة منهن وتروح تصفي حسابها مع الذي تسبب لها بالقهر ثم الموت. والذي تسبب لها ليس الزوج فحسب بل العائلة وقيمها وشرفها وثقافة الصمت المقدسة وتجاهل السلطة. الذي تسبب لها رفض التعامل مع قوانين العنف المنزلي بجدية. ليت كل واحدة منهن تعود لتصفي حسابها مع الرجولة الوهم ومع العنف الذي لا توّلد الرجولة الوهم سواه.

المقتولات ليس فقط في لبنان تحت غطاء شرف العائلة والسترة والصمت، بل على امتداد خارطة واسعة للشرق الاوسط. زافران محمدي قتلت العام الماضي في إيران، تماماً في يوم المرأة العالمي، لأنها قررت الزواج من رجل رفضته عائلتها المعروفة بولائها لسلطات الجمهورية الاسلامية. قُتلت ثم دفنت بطريقة تخلو من أي احترام للميت، ولم تجرِ السلطات حتى اليوم أي تحقيق في ملابسات قتلها.
في كل بلد عربي وشرق أوسطي هناك مئات النساء مثل زافران يقتلن ويدرج قتلهن من ضمن حل خلافات أسرية لا تتدخل السلطة فيها كثيراً!
كما في إيران كذلك في السعودية. سياستان متناحرتان الا انهما متفقتان على قتل النساء وكمِّ افواههن. نعم… كما الصمت عن العنف الذي تتعرضين له، كذلك الكلام عن حياتك يقتل أيضا ايتها المرأة القتيلة. الكاتبة والشاعرة السعودية الطبيبة بلقيس ملحم قتلها زوجها الوهابي لأنها دعت إلى التسامح مع المختلفين مذهبياً وفكرياً. قُتلت بلقيس ملحم بسبب الكلام، بسبب ما كتبته. مقالات جعلت من يقرأها يؤمن ان آخر ذلك الظلام الرهيب لا بد من نور ولو خافت. لكن الظلام كان أقوى من كلامها.
ناديا انجومان الشاعرة الأفغانية رفضت الصمت فقتلها زوجها. كيف سنحتفل بيوم المرأة العالمي وهناك امرأة تقتل بسبب قصيدة كتبتها. اختار من ديوانها الوحيد «الزهرة القرمزية» هذه الكلمات:
«مُحتبسةٌ في هذه الزاوية
ملفوفة بالحزن والأسى
جناحاي مضمومان لا يمكن الطيران
امرأة افغانية أنا
لذا علي النحيب»
كلام المرأة الشخصي كجسدها، عورة ويجب إسكاته، قمعه، تغطيته. ليس الكلام فحسب انما القرار الشخصي الحر أيضاً.
قبول الصمت القاتل باسم العيب والشرف والسترة اتى من مكان ليس ببعيد أبداً عن القبول بماكينة الموت بل الترويج لها تحت اسماء اقلها الشهادة. ما هي تلك القدسية التي تروّج للموت، للقتل. قبول الموت مصدره الفكري العميق واحد. إنه مصدر لا يقيم وزناً للفرد، لحياة الفرد، لكرامة الفرد، بل يترك افكاراً هي كسلاسل السجون تدير مصائرنا. افكر بالمقتولات في الوقت الذي ترتسم امام عيني لوحة غويا… ساتورن يلتهم ابناءه لحظة ولادتهم. سواد اللبنانيين باتوا يقدسون الموت على الحياة. شبان يعودون محمولين كل يوم إلى بلداتهم، وأبرياء يقتلون في لبنان بسبب عنف مجاني. كأننا لم نعش الحرب سابقاً، كأن السنوات التي أكلت شبابنا لم تعلمنا أي شيء. كيف نجحت تلك الماكينة بإقناع الشباب ان الموت طريق للحياة. كيف نجحت آلة الرعب تلك بإقناع الأمهات ان الأبناء الذين يحملون السلاح، إلى أي فئة انتموا، تفتح لهم بوابات الجنة. يحلمون بالجنة ومن ارسلهم إلى الموت العبثي يغرق في تصريف أعمال أجندة خارجية لا مصلحة فيها لأي امرأة، لا هنا ولا في أي بلد عربي آخر. توقفت النساء عن البكاء. قدسية الشهادة لا تحتمل البكاء بل التهليل والفرح، قالوا لها وصدّقتْ. مرعب ان تتوقف امرأة عن بكاء من فقدت. الماكينة غيّرت لهن صورة القهر…ميتامورفوزيا القهر والموت، صوّرت لهن المقهور بطلا والضحية شهيداً.
ليس بطولة ذلك الهتاف للموت؟ إنه اغتيال للحياة التي صنعتها أجسادهن، هتاف لموتهن أيضاً، لقتلهن.
كيف تستعيد المرأة حقها في وجه ماكينات الشهادة والموت؟ في وجه أخلاقيات المجتمع والشرف والعيب. هي ماكينات واحدة بأسماء مختلفة لتبرير القتل.
آن الأوان لتقول المرأة لا… لا للموت!
عيد المرأة هو عيد مالا
مالا الشابة الجميلة التي لجأت من بلدها سريلانكا إلى فرنسا هرباً من المجازر العرقية والطائفية… تعمل 6 ايام في الاسبوع وأحياناً ايام الآحاد في بلد يقدّس عطلة نهاية الاسبوع. قالت لي إنها تريد لابنتها دراسة الطب. وهي تعمل بحيوية من دون تأفف لتأمين كل شيء لعلم الإبنة. الصبيّان ما زالا في المدرسة. لا بد انها أيضا تفكر في مستقبل جدي لهما. تفرح بي لانها تستطيع التحدث بالانكليزية التي تجيدها أكثر من الفرنسية. خلال ساعات العمل القليلة في شقتي كل اسبوع، تحدثني مالا عن عائلتها هنا وهنالك، عن مرض أمها ومشاكل اولادها، عن خالتها التي هاجرت أيضا وعن شقيقها الذي هرب من الحرب إلى بريطانيا. تحكي عن صديقات لها توزعن في العالم العربي عاملات منازل. أقنعت زوجها بالهرب من شمال سريلانكا حيث قوات التاميل كانت تجبر الرجال على المشاركة في القتال. قالت لي «أنا تاميل لكن لا اريد لزوجي ان يموت ولا لأولادي. من اجل ماذا يقاتلون. يريدون دولة مستقلة. يريدون مني إرسال زوجي ومن ثم أولادي الذكور إلى الحرب. لكن اذا مات زوجي وإبناي ماذا افعل حينئذ بهذه الدولة المستقلة؟ لن يكون لدي حياة حتى ولو توّجتني الدولة المستقلة التي يحلمون بها، ملكة!» مالا التي تبرق عيناها بحب الحياة واحترام النفس، لم تجردها ماكينة الموت ولا الايديولوجيا التي تُفبرك حولها، من إنسانيتها ولا من إيمانها أن الحياة هي الاولوية المطلقة من دون نقاش، لها ولأفراد عائلتها. يمكن مناقشة أي أمر آخر بعد الاتفاق على ان حماية الحياة هو الهدف وليس القضاء عليها. لكن كأن قدرها الخسارة اينما رحلت. فقدت الزوج الذي سرعان ما قضى بمرض السرطان، بعد سنتين فقط من وصول العائلة إلى باريس. نجت مالا من الموت وأنقذت عائلتها، لكن مع فقدان شريك حياتها الذي أحبت، دخلت مرحلة مختلفة لا تقل صعوبة في بلاد جديدة تتميز بقسوة من نوع آخر. في عائلتها لا يجوز ان تبقى الارملة في بلد غريب من دون رجل. طالبتها العائلة الكبيرة بالزواج ودعوها للعودة إلى سريلانكا لإتمام عقد الزواج مع رجل تختاره هي من بين المتقدمين. لكنها رفضت. أصرت على أنها تريد تربية اولادها ولا تريد رجلا غريباً في دارها. لن يتفق مع اولادي قالت لهم، لن يحبهم كأبيهم الذي رحل وهم لن يقبلوا بالجديد أباً، وسأقع أنا في قلب خلافاتهم». قالت لي. ثم تابعت همساً ‘نها لن تغرم مرة ثانية كما اغرمت من قبل بالرجل الذي أصبح زوجها، فلماذا الزواج مرة أخرى! سألتني.
لكن لمالا صديق سري لا تصرح عنه في الاوساط العائلية. انظر إلى عينيها الجميلتين ونحن نشرب الشاي. اسألها عن صديقها لكن تحمر وجنتاها قبل البدء بالكلام. اقول لها مالا انت في فرنسا تستطيعين ان تخبريني لا تخافي. تقول إنها تخاف العائلة والكلام الذي سرعان ما يصل إلى بلدتها.
«من باريس إلى بلدتك في سريلانكا! معقول يا مالا!» اعلّق وأنا أضحك.
في عطلة الميلاد طلبت مني ان اشتري لها خلال زيارتي إلى بيروت، ساعة رجالية «سايكو 5»، تريدها هدية لصديقها، وأصرت ان تكون سايكو 5. قالت لي إن سايكو في بيروت ارخص بكثير من باريس. لا اعلم من اين تأتي مالا بمعلوماتها، لكن اعلم انها على اتصال دائم بصديقات لها يعملن خادمات منازل في دول عربية. تخبرني عن الظروف القاسية التي يتعرضن لها. «انا اعمل صحيح لكن اعمل بحريتي وبقراري الشخصي. بينما هن يتعرضن للعنف بكل أنواعه ان لم يعملن 16 ساعة في اليوم». تقول مالا بزهو، وتشعر في أعماقها انها محظوظة ان تكون هنا وليس في بلد عربي.
لو يعلم كل عنصري عربي، بل كل عنصرية عربية، ان المرأة في سريلانكا دخلت باب السياسة منذ 54 سنة بينما هذه المرأة التي تتعامل بعنصرية مع خادمتها لا تمتاز عنها بشيء بل هي نفسها ضحية ثقافة القتل التي تسمح لذكور الأسَر بقتل النساء. رغم ذلك تلك المرأة نفسها تصرّ على اجترار أخلاقيات الذكورة وتدافع عنها. ليتها تعلم أن اول رئيسة وزراء في العالم هي سيريموفا باندرنايكه من سريلانكا. تسلمت رئاسة الحكومة عام 1960 وكان على الغرب أن ينتظر حوالي عشرين سنة كي يرى أول امرأة تجلس وراء مكتبها كرئيسة للوزراء في 10 داونينغ ستريت في بريطانيا!!
عيد المرأة اليوم هو ليس عيد كل النساء. بل هو عيد مالا، عيد النساء اللواتي يرين ان الحياة أهم من الموت وأن ماكينات القتل التي تفبركها السلطات الدينية والعسكرية والديكتاتورية يجب ان تتوقف وبأي وسيلة.

السابق
غرايس الريس: كأنها سهرة في بيتي
التالي
اهل ميشال الصقر قطعوا اوتوستراد سعدنايل زحلة