لكي تبقى دولة بعد «الرئيس»

ندر أن دخل القصر الجمهوري في لبنان رئيس طبيعي، تمّ انتخابه بشكل طبيعي، وعبر مجلس نيابي طبيعي، وفي ظروف طبيعية تمهّد لحكومة طبيعية، تنال ثقة طبيعية وعلى قاعدة بيان وزاري طبيعي، أي قابل للتنفيذ في مناخ طبيعي.
ندر أن وصل إلى القصر الجمهوري في بعبدا، التي كانت عاصمة المتصرفية، رئيس طبيعي ومن دون انتظار عجائب ومعجزات تتجاوز ما هو طبيعي، وفي اللحظة الأخيرة، لتُسقِط علينا، بمظلة أميركية ـ سورية أو سعودية ومن قبل مصرية، «رئيساً للجمهورية» من خارج التوقع، وليس في سجله ما يفتح أبواب الأمل بنجاح «عهده» الميمون… ومع «الدول» تكون الأولوية المطلقة للثقة بالشخص وليس بالبرنامج الذي يمكن لأي كان أن يكتبه.. وبعد «انتخابه» خارج المجلس ومن فوق رؤوس النواب الذين يكون عليهم إنجاز مهمة دقيقة، وإن بدت طبيعية تماماً: أي وضع الأوراق في الصندوق!
كذلك ندر أن خرج من القصر الجمهوري «الرئيس» المنتهية ولايته بشكل طبيعي، ولسبب طبيعي إلى حد البداهة وهو أنه قد أمضى في القصر ست سنوات كاملة، ومن الطبيعي أن يسلّم الأمانة لمن أتت به ظروف غير طبيعية، تماماً كالتي أوصلته إلى سدة الرئاسة قبل ست سنوات..
ولقد بات مألوفاً أن يعيش اللبنانيون حالة من التوتر غير الطبيعي عشية انتهاء الولاية الطبيعية «للرئيس» الذي ينتبه ـ متأخراً ـ إلى أن ولاية طبيعية من ست سنوات لا تكفي لإنجاز يليق بعهده المتميّز، وأن لبنان ـ بالمقيمين بعدُ فيه وبالمغتربين المنتشرين في البلاد البعيدة ـ في أشد الحاجة إليه، وأن «مسؤوليته الوطنية» تفرض عليه أن يبقى في السدة أقله لنصف ولاية إذا تعذر التجديد، أي ولاية كاملة من ست سنوات.
… هذا مع العلم أن كل من أُسقط على سدة الرئاسة، في ما عدا الرئيس الراحل فؤاد شهاب، كان يكرّر على مسامع مَن يلقاه، بالقصد أو بالمصادفة، أن صلاحياته المحدّدة والمحدودة والمقيّدة بالدستور والعُرف لم تمكّنه من أن ينجز ما كان يحلم بإنجازه… ولو أن مدة الولاية أطول لكان أعطى ما يدهش العالم.
ولقد استطاع فؤاد شهاب أن يعيد بناء الدولة كلها تقريباً، وخلال ست سنوات لا أكثر، ثم رفض التمديد والتجديد وخرج من الرئاسة كبيراً (وهذه ميّزة ينفرد بها) ليدين النظام الأشوه الذي وقفت «قواه الفاعلة» ضد استكمال بناء المؤسسات، وتصدّت بشراسة للإصلاحات التي كان من شأنها تحقيق عصرنة الدولة مع إلزامها بواجباتها في تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية، من ضمنه إنصاف المناطق المحرومة التي لم تعرف من «الدولة» إلا قواها العسكرية والأمنية.
فليس كل «جنرال» رئيساً ناجحاً، ومَن لم يكن له ذكر في رتبته العسكرية يصعب أن يحقق إنجازاً باهراً إذا ما صار رئيساً.. بل إن الناس، الذين لم يكن لهم رأي في ترئيسه، لا يطلبون من «عهده» إلا «السترة والسلامة» وتجنيب البلاد الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة.
وليس كل «جنرال» يحمل إحساساً مرهفاً بالعدالة الاجتماعية، وليس ضرورياً أن تكون في علمه أو في ذهنه صورة واضحة للدولة ومؤسساتها وموقعه منها ودوره فيها، فلا يتجاوز صلاحياته ويتصدى لما يتعدى قدراته وكفاءته فيتسبّب في كارثة وطنية، خصوصاً إذا ما صار طرفاً في صراع مفتوح أبداً بين القوى السياسية، في الخارج كما في الداخل، مما يشل الحكم ويهدد الوحدة الوطنية بالتصدع، بل وقد يتسبّب في تخريب ما تبقى من «الدولة» وتهديم ما تبقى من الروابط بين «رعاياها».
… خصوصاً وأن انحياز «الرئيس» إلى طرف هو أقصر طريق إلى تفجير البلاد بشعبها ودولتها والمؤسسات.. «فالدول»، بمن فيها من سعت لإيصاله إلى السدة ليست جمعيات خيرية تعطي بلا مقابل وتتبرع ببناء الوحدة الوطنية، نيابة عن الشعب وكرمى لعيني «الرئيس» أو هذه الطائفة أو تلك..
من هنا إن اللبنانيين يستقبلون نهاية ولاية أي رئيس بمخاوف جدية على وطنهم وليس على نظامهم، وعلى وحدتهم الوطنية أولاً وأخيراً، وتراهم يرددون في السر وفي العلانية الدعاء: اللهم حسن الختام.. اللهم إننا لا نسألك رد القضاء بل اللطف فيه.
… ذلك أن غير «رئيس» قد تسبّب في حرب أهلية، سواء مع انتخابه في ثكنة عسكرية، أو مع انتهاء ولايته ورفضه الخروج من القصر بما يليق بمقام الرئاسة من احترام.

السابق
لبنان بلا رئيس
التالي
الموت يغيب الفنان الفلسطيني إبراهيم صالح “أبو عرب”