الصراع الروسي ـ الأوكراني: عسكرة أم اقتصاد؟

«إذا ما تعرض إسرائيلي واحد أو أميركي واحد للخطر، تتحرك ترسانات العالم بأكملها لإنقاذه… نحن نتحرك لانقاذ مئات آلاف الروس الذين يقطنون القرم». هذا ما قالته فالنتينا ماتفيينكو بعدما أقر مجلس الاتحاد الروسي، أمس الاول، برئاستها قراراً يسمح للرئيس فلاديمير بوتين باستخدام قواته خارج حدود البلاد، على الأراضي الأوكرانية، وتحديداً في القرم.

في أول أيام الربيع ــ والربيع يبدأ في الأول من آذار في روسيا ــ بدأت البلاد تحضر عتادها السياسي والاقتصادي والعسكري للقول إن أوكرانيا لم ولن تخرج من دائرة التأثير الروسي.
أما «غازبروم» فشهرت أوراق سعر الغاز سلاحاً ضد الجار الأوكراني، مهددة بإلغاء الاتفاقيات، في الوقت الذي تقف فيه كييف على أبواب إفلاس فعلي لن يخرجها منه الارتماء في أحضان الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني أصلاً من أزماته الاقتصادية.
من جديد يتقدم بوتين على رقعة شطرنج الاتحاد السوفياتي السابق، وهو لا يحتاج في الواقع إلى اتفاقيات أو بروتوكولات أو بيروقراطية لتوجيه دباباته وجنوده إلى ساحة المعركة. ما كان كافيا بالنسبة إلى روسيا، هو نداء رئيس حكومة القرم سيرغي أكسيونوف، أمس الأول، لطلب المساعدة من الرئيس الروسي «من أجل الحفاظ على الأمن في أراضي جمهورية القرم الذاتية الحكم».
تساؤلات عدّة بدأت تطرح في روسيا وخارجها: هل ما يشهده العالم اليوم هو «حرب عالمية جديدة»، أم آخر أيام لأوكرانيا الموحدة؟ وهل سنشهد ولادة اوكرانيتين شرقية وغربية أم أوكرانيا غربية وروسيا أكبر؟
لكن هذه التساؤلات، وبرغم تصاعد التوتر في شبه جزيرة القرم، ما زالت سابقة لأوانها، فرئيسة الاتحاد الروسي أكدت أن قرار التدخل العسكري لم يُعتمد بعد، ولكنه وارد في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع الأمنية لدى حليفتها التاريخية. وعلى ارض الواقع، فإن الحرب التي أعلنت على السلطات الأوكرانية ما زالت تعد ضمن «العيار الخفيف».
ويرى المراقبون أنه من المبالغة القول إن روسيا مقبلة على مغامرة عسكرية في الشرق الروسي من خلال تحريك بعض القوات في شبه جزيرة القرم، ذلك أن هذه الخطوة ما زالت حتى الآن ضمن الإطار الشرعي، باعتبار ان المعاهدة الخاصة بالأسطول الروسي في سيفاستوبول تسمح للكرملين بنشر 25 ألف جندي في هذه المنطقة الاستراتيجية علاوة على 132 مدرعة و22 طائرة حربية.
أما الخطوات التصعيدية الأخرى من قبل الجانبين، فليست سوى رسائل متبادلة، ولعلّ ابرزها قيام روسيا بإغلاق مواقع الكترونية تابعة لمتشددي اليمين في أوكرانيا، وصفحات مخصصة لنقل أحداث الميدان على موقع «فكونتاكتي» («فايسبوك» الروسي). وعند محاولة الدخول إلى هذه الصفحات والمواقع تطالعك عبارة «هيئة الرقابة الروسية أغلقت هذه الصفحة بسبب إدراجها على القائمة السوداء».
وعلى الجانب الآخر، فإن زعيم اليمين في اوكرانيا ديميتري ياروش حاول استغلال نقطة الضعف الروسية تجاه الإرهاب لتوجيه رسالة قوية للكرملين، بدعوته الإرهابي دوكو عمروف إلى «مواصلة النضال ضد روسيا»، فيما كانت القيادة السياسية في أوكرانيا، وعلى لسان وزير خارجيتها اندريه ديشيتسا، تطلب من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة النظر في امكانية الدفاع عن سيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها.
وفي هذا الإطار، يرى رئيس «معهد العلاقات الدولية» في وارسو أدجي شيبتيتسكي أن «حلف شمال الأطلسي لن يقدم المساعدة العسكرية لأوكرانيا في حال وجهت روسيا قواتها إلى القرم».
ويوضح شيبتيتسكي أن «أوكرانيا لا تعتبر عضوا في حلف شمال الأطلسي، وبحسب الاتفاق (الموقع بين كييف والحلف) كل ما يمكن أن تحصل عليه أوكرانيا من الناتو هو استشارة في حال تعرضت لتهديد وخطر حقيقيين».
وبحسب شيبتيتسكي، فإن بإمكان أوكرانيا اليوم طلب المساعدة في اطار القانون الدولي، أو اعتماداً على اتفاقيات خاصة، لكنه يشير في الواقع إلى ان «وضع روسيا في مجلس الأمن الدولي يجعلها أكثر صلابة في موقفها من أوكرانيا المعارضة، إذ لا يمكن لكييف أن تعوّل على قرار دولي، لأن فيتو روسياً واحداً سيشلّه».
بدوره، يرى المحلل العسكري الروسي فلاديمير يفسييف، في حديث إلى «السفير»، أن «لا حرب في القرم بل سلسلة استفزازات»، مشدداً على أن «لا أوكرانيا ولا الغرب مستعدين للتحرك المسلح».
ويوضح المحلل الروسي: «لو كانت أوكرانيا عضوا في الناتو لكان من الممكن فتح الأبواب أمام قوات الحلف للدخول. إلا أن أوكرانيا في وضع الشريك وليس العضو، وهو وضع لا يمكّنها من التصدي لروسيا بسلاح الغير».
وبحسب يفسييف: « من الأسهل لروسيا ارسال قواتها إلى أوكرانيا في حال تدهور الأوضاع، بدلا من استقبال ملايين اللاجئين على أراضيها».
هذا التفاؤل لا يشاركه المحلل السياسي بافيل فيلغيتغاوير، الذي قال في مقابلة أجرتها معه صحيفة روسية أن «حرب الشيشان، بالمقارنة مع ما سيحدث في أوكرانيا، لن تكون إلا حلقة صغيرة من مسلسل طويل ينتظر كييف».
وقد لا تعمد روسيا إلى تسديد ضربة عسكرية إلى أوكرانيا، لكن أمامها فرصة لردع النزعات الجدية للحكام الأوكرانيين الجدد، عبر وقف امدادات الغاز.
ومعروف أن ورقة الغاز هذه لن تكون ضربة للمعارضة الأوكرانية، أو قصاصا «للفاشيين» البارزين اليوم في الميدان، وإنما ستكون في الواقع ضربة لأوروبا، التي قد ترد بفرض العقوبات على روسيا، ومحاصرتها اقتصاديا بوقف تصدير السلع الاستهلاكية.
ولا يستبعد فيلغيتغاوير أن يفرض الغرب على روسيا عقوبات اقتصادية في حال تدخلها في القرم وفي الأزمة الأوكرانية بشكل عام. وهذه العقوبات قد تكون اقسى من تلك التي فرضت على موسكو في السابق، والتي كشفت عن «كسل» في المجالين الصناعي والزراعي.
ومهما تكن الاحتمالات المستقبلية للأزمة الروسية ــ الأوكرانية، فإن هناك شبه اجماع بين المراقبين على ان كييف تبقى الخاسر الأول في أي صراع، وهنا تبرز أسئلة عدّة، أهمها: ألم يكن الجدير بالمعارضة الأوكرانية أن تستعد بشكل أفضل لانقلابها على روسيا قبل أن تجر البلاد إلى المجهول؟
قد يرى البعض أنه لم يكن يجدر بروسيا الاجهار بنيتها التدخل عسكريا في بلاد تعمها الفوضى المطلقة، ولكن الغرب أثبت من جديد انه إما في حالة غيبوبة سياسية منذ زمن، وإما يتغاضى عن حقيقة الأمور.
ويسأل البعض في روسيا: ماذا كانت تنتظر واشنطن من موسكو أمام نزهات مساعدة وزير الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند في «الميدان»؟ هل كان الهدف الفعل اختبار صبر الدب الروسي؟ أليس السفير الأميركي السابق لدى روسيا مايكل ماكفول من كتب على حسابه في تويتر ان «المؤسسات الروسية الاقتصادية في الغرب من مصارف وغيرها ستدفع ثمن قرار بوتين»؟ كيف سينظر الغرب إلى شرعية إقدام الحكومة الأوكرانية الجديدة على رمي الاتفاق الروسي الاوكراني بشأن الأسطول الروسي في البحر الأسود؟ ما رأي الغرب بهذه الخطوة الأحادية الجانب؟ وماذا إذا ما كان الرد الروسي بوقف مد أوروبا بالغاز؟
برغم بكل التحليلات التي تقترب من التعقيد، فإن المشهد يتضمن ملامح يمكن البناء عليها لاستشراف المستقبل:
أوكرانيا على أبواب إفلاس فعلي ــ خزينتها فارغة وأيادي أوروبا عاجزة عن ملئها ــ فيما القوميون يتصرفون من موقع المنتصر ويشرّعون القوانين في الشوارع… أما روسيا فلن تستخدم ورقة فيكتور يانوكوفيتش، ذلك أن الرجل بات من دون مستقبل سياسي، وبالتالي فهي قد تلجأ إلى ورقة يوليا تيموشينكو التي قيل إنها ستحضر اليوم إلى موسكو لاجراء مفاوضات مع الكرملين. وبالرغم من نفي المتحدثة باسمها هذه المعلومات، إلا أن التجارب الماضية توحي بأن «المرأة الحديدية» قد تكون صمام أمان امام الانفجار.
هذا الرأي عبر عنه الخبير في معهد «كارنيغي» الكسي مالاشينكو لـ«السفير» بعد فرار يانوكوفيتش، قائلاً: «من الواضح أن يانوكوفيتش قد خسر، ولا اعتقد انه سيكون مجدداً في المشهد… والعملية السياسية ستمضي ضمن إطار الميدان نفسه (برغم التناقضات الكامنة فيه)، في موازاة عودة تيموشينكو مجدداً إلى الواجهة السياسية». وبحسب مالاشينكو فإن «روسيا قد تكون مصدومة بخسارة نفوذها في اوكرانيا، والتصرف المنطقي الذي قد تلجأ اليه، هو التقارب من تيموشينكو». ومع ذلك، فإن المشهد الأوكراني، بحسب مالاشينكو، ما زال يتسم بالسيولة، ولذلك فهو يرى انه «من الافضل انتظار نتائج الانتخابات المقبلة التي ستوضح حقيقة الوضع هناك».

السابق
البير كوستانيان: حزب الله عصابة من العصابات التي تتحارب في سوريا
التالي
الأفلام الدينية تقتحم هوليوود في 2014