جبل عامل وفلسطين: 200 عام من الوحدة

القضية الفلسطينية وجبل عامل
كانت القوافل التجاريّة تأتي إلى سوق بنت جبيل من معظم أنحاء فلسطين. كانت العملة المتداولة هي الليرة الفلسطينية، وأحياناً اللبنانية. حتى الأربعينات كانت سوق بنت جبيل عامرة بشكل استثنائي من سنة 1948. وكانت القوافل التجارية، المحمّلة بالبضائع والسلع على ظهور البغال والجمال تأتي من غزة والعريش، ومن حوران، وقد أخذ جبل عامل أهميته التجارية قديماً، من علاقاته بالجوار العربي، خصوصا السوري الفلسطيني.

أطلق اسم جبل عامل على معظم الأراضي الواقعة في جنوب لبنان، وعلى قسم قليل من الأراضي الواقعة على الحدود في شمالي فلسطين المحتلة. فيحدّه نهر الأولي وجزين شمالاً، وفلسطين جنوباً. بموقعه على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، عرف لبنان أدواراً اقتصادية وسياسية وثقافية مهمة في تاريخه، فأضحى وسيطاً بين مراكز الإنتاج الصناعي الأوروبي والأسواق الاستهلاكية الأسيوية والأفريقية بعد نمو المواصلات البحرية، وازدهار التجارة الدولية، فاحتل مركزاً مرموقاً في التجارة لارتباطه بدمشق وسائر المدن السورية بطريق العربات ثم محطة السكك الحديدية. وتعزز هذا الدور بعد نكبة فلسطين عام 1948 التي انتقل دورها التجاري إلى لبنان فتوسع نطاق الخدمات اللبنانية ليشمل دول الشرق العربي وشبه الجزيرة العربية. علاقات تاريخية إلّا أن العلاقات التجارية بين أهالي جبل عامل وأهالي فلسطين، نشأت منذ حوالى مئتي عام، (1819 تقريباً بحسب روايات الأهالي). وكانت القوافل التجارية، المحمّلة بالبضائع والسلع على ظهور البغال والجمال تأتي إلى سوق بنت جبيل، وذلك من معظم أنحاء فلسطين، ومن غزة والعريش، ومن حوران، وقد أخذ جبل عامل أهميته التجارية قديماً، من علاقاته بالجوار العربي، خصوصا السوري الفلسطيني، وذلك من خلال سوق بنت جبيل الأسبوعية، التي تعتبر موعداً دائماً لالتقاء البائعين والشارين، من مختلف المناطق المجاورة. وكان تجار المناطق البعيدة يأتون قبل يوم أو يومين من انعقاد السوق، ليتسنّى لهم البيع والشراء، “يبسَّطون” ببضائهم، على الأرض أو على طاولات أو ضمن عرائش تنصب ليلة الخميس لهذه الغاية. وكانت العملة المتداولة هي الليرة الفلسطينية، وأحياناً اللبنانية، حتى الأربعينيات من هذا القرن. وبعد النكبة، أصبحت الليرة اللبنانية هي العملة المتداولة الوحيدة بعد سنة 1950″.
أعطى موقع بنت جبيل الجغرافي على الطريق الأساسي الذي كان يوصل لبنان بفلسطين للسوق أهميتها، حيث كان يؤمّها كبار تجار الحبوب من حوران وفلسطين، وتجار المواشي من حلب وحمص والبقاع وفلسطين، وتجار السلع من طرابلس وعكا وبيروت ويافا والقدس، وتجار الخضار والفاكهة من الزبداني ويبرود في سوريا. ففي كل يوم خميس، كانت سوق بنت جبيل تغدو ملتقى القوافل التجارية من المنطقة وجوارها، حيث اعتبرت البوابة التجارية لجبل عامل من ناحية فلسطين. ظلَّت سوق بنت جبيل عامرةً بشكل لا مثيل له حتى سنة 1948، حين أصبحت المنطقة مركز عمليات عسكرية ودخلتها قوات جيش الإنقاذ، وقوات عربية أخرى، بهدف محاولة استرجاع ما احتلّه العدو الصهيوني، من الأراضي الفلسطينية واللبنانية. لكن الخيانة لعبت دوراً كبيراً، في إسقاط فلسطين، بأيدي اليهود، وأقفلت الطرق بين فلسطين المحتلة ولبنان، ما أثّر سلباً على سوق بنت جبيل، وغيره من الأسواق الأخرى، التي كانت تتغذى أساساً من التبادل التجاري بين لبنان وفلسطين.
رغم أنّ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان انعكس في البداية إيجاباً على سوق البلدة، بفضل عودة نازحي بنت جبيل من بيروت… إلّا أن العدو الصهيوني قصف السوق مراراً، بهدف إيقاف الحركة التجارية في المنطقة، لتأثيرها على اقتصاد السوق الصهيونية في شمال فلسطين المحتلة، لكنه لم يحقق الهدف بسبب فشل حركة التطبيع التي رسمها، وأصبح التجار يستوردون بضائعهم من الداخل اللبناني، عبر بوابات العبور، بمعاناة وصعوبات وضرائب تفرض على المستهلكين .
وعن يافا التي احتلت موقعاً طبيعاً جعلها بوابة تصل فلسطين بدول حوض البحر المتوسط وأوروبا وافريقيا، يحكي عطا لله قاروط (أبو محمد) من ميس الجبل ما يذكره من أحداث سمعها أو شاهدها في رفقته والده إلى أسواق فلسطين لبيع القماش والتمور، ليعودا بالحبوب والصابون والحمضيات: “سيدة من البدو أتت لتشتري التمور، فقالت إن زوجها المرحوم كان يحب التمر، أجابها مازحاً: خذيهم وضعيهم على ضريحه يتسلى بهم في المساء، فأخذت الكلام بجدية وعملت به، وأتت في اليوم التالي لتشتري المزيد قائلةً، لقد أحبهم كثيراً، ذهبت لزيارته صباحاً ولم أجد منهم شيئاً”.
يروي أبو أحمد عاصي( 85 سنة/ البابلية): “كانت القوافل تسير بين جبل عامل وفلسطين، من المناطق البعيدة بشكل جماعي عند الصباح الباكر بواسطة الجمال والحمير الضخمة والبغال، وثمة من كان يقطع المسافة سيراً على الأقدام. كان والدي وإخوته ينقلون الدجاج والبيض إلى فلسطين، يتبادلون البيع والشراء أحياناً، سلعة بسلعة وهو ما كان يعرف بالمقايضة فمثلاً بائع القماش كان يشتري البيض والدواجن مقابل قطع القماش”.
ولطالما حدّثنا جدي عن مدينة حيفا التي جعلها موقعها على البحر الأبيض المتوسط نقطة لالتقائه بكل من السهل وجبل الكرمل، ما جعلها نقطة عبور إجبارية، وميناءً بحرياً هاماً. فهو من عاش فيها حوالى عشر سنوات من سن الخامسة عشرة وحتى التاسعة عشرة من عمره، حين عاد إلى بلدته جويّا، تزوج ثم عاد مصطحباً جدتي إلى فلسطين، وهناك رزقا بوالدتي وأكبر أخوالي، في العام 1944، حين كانت فلسطين تحت السيطرة البريطانية، كان يعمل مع عمه في تجارة القماش، فيصف السوق القديمة قائلاً: “كانت تتوزع على جانبيها الحوانيت والدكاكين الصغيرة والمقاهي والورش الحرفية، كما تتفرع منها الأزقة التي تؤدي إلى مناطق سكنية، أو حوانيت تجارية أيضاً. فكانت تنتشر في نواحي السوق المقاهي الشعبية قرب الجامع وهو قديم جداً، وتلك المقاهي كانت توفر الأراجيل والقهوة والمشروبات التي يتعاطاها المسافرون النازلون للاستراحة، فضلاً عن بعض الحلويات والكباب المشوي والمقلي، إضافة إلى بعض الترفيه مثل لعب الورق والطاولة وغير ذلك. ما كان يجعل الحركة دائبة في السوق القديمة خصوصاً في فترة الصباح الباكر الذي يعجّ بالمرتادين والباعة والمارة. فتعلو أصوات الدلالين الذين يعرضون البضائع بالمزاد العلني، وتنتشر دكاكين العطارة. فكان العطار يبيع العطارة وجميع مستلزمات الفلاحين من مواد غذائية أو أدوات أو أقمشة وبُنّ ودخان أو ما شابه ذلك”.
ويضيف: “كان أبناء جبل عامل والفلسطينيون هم المرتادون الرئيسيون للسوق بيعاً وشراءً، وتبادلاً للسلع البسيطة عن طريق المقايضات. وكان التجار يستوردون بضائعهم من الشام وفلسطين، وينقلونها على الدواب إلى السوق القديمة، حيث اعتادوا على الاستجمام، فيرتاحون ويريحون إبلهم من عناء السفر”.
بعد خمس سنوات من استقلال لبنان، كانت نكبة فلسطين (1948)، التي أثّرت سلباً على حدوده الجنوبية حتى أصبح في خضم تلك الأمواج العاتية، لا قدرة له على خوض غمارها. لكنه احتضن اللاجئين الهاربين من ظلم الصهاينة، متضامناً ومتعاطفاً رسمياً وشعبياً معهم. وبالفعل بادر لبنان حكومة وشعباً إلى تشكيل فرق الدعم والإنقاذ التي عملت مع الصليب الأحمر ومع الجمعيات والهيئات الأهلية على إغاثة اللاجئين وتقديم العون لهم. كما شارك الجيش اللبناني في المعارك ضد الاسرائيليين عام 1948، وخاض مئات المتطوعين اللبنانيين المعارك بكل تضحية وشجاعة إلى جانب إخوانهم الفلسطينيين. وفتحوا منازلهم للاّجئين مقدّمين كل ما أمكن تقديمه إليهم، كذلك فعلت المؤسسات الحكومية والمنظمات والجمعيات. عاش اللاجئون الفلسطينيون، على أمل وحلم العودة القريبة، ينتظرون في خيامٍ منصوبة، إلّا أن اتفاقات الهدنة مع إسرائيل جعلت تحقيق الحلم بعيداً جداً. ما أدّى إلى نشأة المخيمات في مناطق لبنانية مختلفة. طال ليلهم وهم ينتظرون الصباح المشرق، نسمعهم دوماً يردّدون: “إحنا راجعين”، فمهما طال الليل لا بد أن يأتي الصباح.

السابق
بعد تهديدات حزب الله: اسرائيل تستنفر سفاراتها
التالي
عن دراستنا بالجامعة اللبنانية.. نحن الفقراء فعلا