بوتين يخسر روسيا أولاً

ماهو السلوك المحتمل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد الصفعة القوية التي تلقاها في الجوار الأوكراني ذي الأهمية الخاصة في إستراتيجية روسيا الدولية؟. هل سيتصالح مع هذا الواقع الجديد بحيث يعمل على توظيفه في ميزان الثقة بروسيا كفاعل دولي ملتزم بالسلم والأمن الدوليين، أم سيذهب باتجاه تزخيم البعد القومي في استجابته للحدث ويعمل على مناكفة الغرب (الذي ينظر إلى كل تصرفاته من وراء نظارة رجل الكي جي بي)، في أوكرانيا وتعقيد الأمور في سوريا؟.

بساقين من فخار يحاول، فلاديمير بوتين، نقل (الإمبراطورية) الروسية من واقعها الضعيف إلى عالم الأقوياء، ويعمل على وضعها قسراً على مسار أقطاب السياسة والاقتصاد العالميين ذاتهم رغم خطورة هذا الرهان القاسي، ورغم تكلفته وصعوبته.

وتجمع القراءات التي تناولت هذه الظاهرة المركبة في العلاقات الدولية في عالم ما بعد الحرب الباردة، على أن العامل الشخصي والتكوين النفسي للرئيس بوتين، يشكلان مدخلا لتفسير سياسة روسيا التي تعد بالفعل ظاهرة بالنظر لظروف العلاقات الدولية وتعقيداتها في عصر العولمة، ففي الوقت الذي تذهب فيه الولايات المتحدة الأمريكية، القوى العظمى الكبرى في الوقت الراهن، إلى تخفيض التزاماتها السياسية والعسكرية في العالم، تندفع روسيا إلى توريط نفسها في أماكن معينة، سوريا وأوكرانيا، دون التمعن بالاستحقاقات التي قد يرتبها مثل هذا الانخراط وما إذا كانت العوائد موازية للأثمان المستوجب دفعها؟.

القراءة البسيطة، تقول إن بوتين، عنصر الاستخبارات السابق، والمخلص للإتحاد السوفيتي السابق، والذي يعتقد أن انهيار ذلك الكيان كان الخطأ الإستراتيجي الأكبر في القرن العشرين، شخص تحكمه ميول واعتقادات تؤثر على مدركاته السياسية من خلال رفع سقف الأحلام الإمبراطورية، دون مرور تلك الأحلام بمرشحات عناصر القوة وظروف العالم ومتغيراته، وبالتالي فهو لا يمتلك الرغبة فقط، بل يعتقد أن لدى روسيا القدرة والفرصة لإعادة مجدها الإمبراطوري، أما أدواته في هذا المضمار فتعتمد بطريقة ما على خلق مجال حيوي خاص بروسيا» جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق» وكذلك تحقيق بعض الاختراقات الجيوإستراتيجية في مناطق حيوية وتقع في دائرة الصراع الدولي» الشرق الأوسط «.

وثمة قراءة أكثر تعقيداً من الأولى، ترى في سياسة بوتين نمطا دفاعيا، وإن تميز بحساسيته ومبالغته في تقدير الأخطار وطبيعة الاستعدادات، ذلك ان روسيا تقع بين صراعين حضاريين وجيوإستراتيجيين بالوقت نفسه، وهو ما يجعل استجاباتها تتميز بتوتر ملحوظ وإندفاعة غير متوازنة ومحسوبة.

في القراءة الروسية، الممزوجة بخليط ثقافي وسياسي، تشكل اوكرانيا خط الدفاع الأرثوذكسي في مواجهة الحضارة الأوروبية المنفتحة ذات القيم والسلوكيات غير المقبولة في المجتمع الأرثوذكسي السلافي الروسي، وبالتالي فإن من شأن تغلغل القيم الأوروبية الغربية في المجتمع الأوكراني تشكيل شرارة التخريب الأولى داخل روسيا، وهو الأمر الذي يفاخر القوميون الروس بوقف تداعياته مع النهوض القومي الجديد في السنوات الأخيرة، في حين تشكل الحرب في سوريا وعلى ثورتها خطوة إستباقية لمنع تمدد العدوى للجمهوريات السوفياتية السابقة وكذا للمناطق المسلمة في روسيا نفسها، وبالتالي فإن بوتين وفق هذه القراءة يحاول حماية العرين الروسي بدون أوهام أيديولوجية أو أحلام إمبراطورية.

غير أن الواقع يقول إن بوتين الممزق بين أحلام استعادة المجد الروسي الغابر وهواجس حماية بلاده من الاختراقات السياسية والثقافية، لا يفعل سوى صناعة المزيد من المتاعب لروسياه، ففي حين تغرق بلاده بخضم جملة من المشاكل التي تعانيها دولة عالمثالثية» كالبطالة والفقر وضعف القاعدة الإنتاجية، فإنه يضع بلاده على سكة صراعات من المقدر أن تستهلك الجهد الروسي في تجاوز تلك المشاكل، ذلك أن بوتين يعلم أن ثمن جذب أوكرانيا لمدار القطب الروسي يستلزم إغراقها بالهدايا التي لا يستطيع تحمل كلفتها، مع بقاء احتمال استمرار أوكرانيا بالبحث عن مخارج لعلاقاتها مع روسيا، في مقابل إراحته لأوروبا الغربية من عبء تسوية مشاكل أوكرانيا التقنية والاقتصادية، الشيء نفسه ينطبق على سوريا التي باتت ترهق كاهل موسكو على أكثر من صعيد، وخاصة لجهة استهلاكها لسمعتها الدبلوماسية نتيجة تأييدها لحاكم مستبد، طال الزمن أم قصر، سيجري إقصاؤه، وبالتالي لا يستحق كل تلك الاستثمارات والجهود الروسية.

بالطبع ليس من المقدر أن تؤثر تلك الحسابات على سياسة القيصر الروسي، ولا هو في وارد الاتعاظ بها، الخبرة التاريخية بسلوك الرجل تؤكد أنه يشتغل وفق قاعدة( روسيا تستطيع)، وليس بناء على قاعدة السياسة فن الممكن وبالتالي فحص الخيارات ومداولتها وتحديد الممكن والمتاح منها، هذا لا يعني ان بوتين شخصية انتحارية، تاريخه السياسي يدلل على انه يهوى المواجهة بذهنية رجل المخابرات الذي يعتمد كثيرا على المناورة واللعب من وراء الكواليس، وليس لديه عقلية الجندي المحارب.

التقديرات تصب في خانة لجوء بوتين إلى صناعة مناورات تخريبية في أوكرانيا، وخاصة لإمكانية العبث بواقعها الجغرافي ويستند في هذا الإطار إلى حقيقة وجود غالبية روسية في شرق وجنوب أوكرانيا وإلى وجود استثمارات ومصالح روسية وروابط عرقية ودينية لروسيا في تلك المناطق، وهي بالمناسبة المناطق الأكثر تطورا من النواحي التقنية والاقتصادية في أوكرانيا، وسيجد بوتين والدائرة المحيطة به التبرير اللازم للقيام بمثل هذا الأمر، يكفي اعتبار ما حصل في أوكرانيا تمهيداً لاختراق المجتمع الروسي بالقيم السياسية الغربية التي تملك النخبة الروسية الحاكمة حساسية خاصة تجاهها، غير انه تجدر الملاحظة هنا بان سلوك بوتين في أوكرانيا يتوقف على مدى وجود عوامل مساعدة وخاصة لجهة مدى استجابة الشرائح الاجتماعية والمكونات السياسية للتفاعل مع هذه السياسات، ذلك أن الروس وحدهم وبدون وجود بيئة داخلية مساعدة لن يقدموا على فعل أشياء مهمة ولن يستطيعوا.

أما في سوريا، فالمرجح ميل موسكو إلى التشدد وزيادة دعم النظام بالأسلحة، وقد بدأت بوادر هذا الأمر بالظهور تباعاً، حيث تفيد تقارير عسكرية بوصول عشرات الضباط والخبراء الروس إلى سوريا ضمن مهمات مختلفة إلى جانب قوات النظام كما عزّز الروس مساعدات جوهرية للنظام في المجالات اللوجستية والاستخبارية، ويأتي هذا الأمر بناءً على توجيهات مباشرة من بوتين نفسه، في محاولة لتثبيت النظام بهدف منع انهياره وبخاصة في ظل الحديث عن فتح جبهة الجنوب لمحاصرة دمشق تمهيداً لإزاحة بشار الأسد أو دفعه للاستسلام في جولة جينيف القادمة منتصف آذار.

بوتين، بين مدافع ومهاجم، ومن حدود الغرب الأوروبي إلى تخوم العالم الإسلامي، يضع روسيا أمام استحقاقات لا تحتملها إمكاناتها، ومن المقدر ذهاب روسيا في عهده إلى حدود بعيدة من استنفاد الجهود والموارد، إلى أن يتصالح حاكم روسيا مع واقعه وإمكانات روسيا وحاجاتها الحقيقية.

السابق
هل أحرَق سليمان مراكبه آخر العهد؟
التالي
وداعاً للحرب مع إسرائيل؟