الجرحى السوريون بين نيران النظام ومستشفيات العدو

الجرحى السوريين
منذ إقفال الأردن حدوده مع سوري يقع الجريح – الضحية من المعارضة السورية أمام تناقض مأزقي صارخ: إمّا الموت، أو العلاج على يدي أعدائه! كأنّ النظام يقول: "من يُجرح على أيدينا عليه أن يموت حفاظاً على معادلة العداء مع الكيان الصهيوني، خدمةً لنا، وحفاظا على استخدامنا لهذه المسألة كذريعة تشرّع لنا ما نقوم به ضدّه"... فإن كانوا متّهمين أصلاً بالعمالة للعدو، لماذا يُستهجن علاجهم على يدي هذا العدو؟!

“اسرائيل” حاضرة بقوة في المسألة السورية. الجهات كلّها تتّهم الجهات الخصمة لها بالعمالة. وفي الإتّهام الذي يحاول كل طرف إلصاقه بالآخر، تخوين، يُحِلّ دمه، ويبرر للقاتل جريمته، ويبقى السؤال: ما السرّ في استحضار “اسرائيل” الدائم في الأزمة السورية؟

في 17 شباط من العام الجاري زار رئيس وزراء الكيان الصهيوني عددا من الجرحى السوريين الذين أُسعفهم جنوده في إحدى المستشفيات الميدانية التي أوجدها الكيان الغاصب في الجولان السوري المحتلّ لهذا الغرض. عُرف منهم الشاب جهاد الزامل ابن مدينة الحراك في الجنوب. تحدّثت عن الموضوع وسائل إعلام سورية موالية للنظام، وعربية كثيرة، كان الهدف من إثارة المسألة – قبل تجريم أيّ طرف – إظهارها بالأساس، لتأخذ حيّزاً لا بأس به من النقاشات والتحليلات، التي تخوّن، أو تبرّر لأحد الطرفين، أي النظام، والجرحى، لأيّ فئة انتموا.
ولـ”إسرائيل” تعريف مبتذل تتبناه أطراف “يسارية” كثيرة في منطقتنا. فهي: “قلعة متقدّمة للإمبريالية العالمية في المنطقة”. لكأنّ النظام السوري وغيره من أنظمة المنطقة، ليسوا شركاء هذه الإمبريالية، يتكاملون معها فيما يصطلح عليه “نمط الإنتاج الكولونيالي”، “الكومبرادوري” اللاوطني، الذي لا يستطيع أن يتطوّر في عملية إعادة إنتاجه لذاته، إلا محكوماً بشروط ارتباطه بهذه المعادلة التي تشكل “اسرائيل” طرفاً أساسياً فيها.

لماذا نعادي “اسرائيل”؟

هذا هو السؤال الذي يوضّح ما قبله، أي: لماذا تستحضر “اسرائيل” في الأزمة السورية؟
للأزمة بعدها الثقافي، والأخلاقي، والتاريخي الذي يجب ألا يغيب. بنى النظام استراتيجية تأبيد سلطته على العداء لهذا الكيان، فكان يستحضر في أدبياته المجازر المرتكبة في فلسطين، كمجزرة كفر قاسم، ودير ياسين، وغيرها ممّا شهدته السنوات الأخيرة. ومن البديهي هنا، أن ثقافة الشعب السوري – كما غيره من الشعوب العربية – تشكّلت على ضوء هذه المأساة التي كان على الدوام، ومنذ بدايتها، متفاعلا معها. وهو، الشعب السوري، الذي دفع الغالي والنفيس في المعارك التي خيضت مع هذا الكيان، منذ ما قبل الإعلان عن تأسيسه بسنوات طويلة، أي قبل ظهور نظام “حزب البعث العربي الإشتراكي” بأجهزته الأمنية التي لم تعمل إلا على كبح جماح المقاومة في الجولان السوري المحتل، وحماية مافياته الإقتصادية التي جوّعت الشعب السوري ونكّلت به. أي ليس لأنّ النظام السوري يعاديه، بل لقناعته بمظلومية الشعب الفلسطيني الذي ارتكبت بحقه أبشع الجرائم.
لكن في المقابل، من يتابع الأزمة السورية من بدايتها، سيكتشف الإرباك الذي وقع به النظام، ناهيك عن جرائمه. ندلّل على ذلك بتصريحات متزامنة في بداية الأحداث لبعض رجالات النظام، وبعض قيادات الكيان الصهيوني التي تؤكّد على المصير المشترك. فها هو رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد، يصرّح في بداية الأحداث: “أمن إسرائيل من أمن سوريا”، وهو تصريح، على أهميته، لم نستحضره إلا لنظهر تعاطي النظام مع من صرّح به، بحيث اعتبر تصريحا شخصيا، لا علاقة للنظام به. لكأنّ “ديمقراطية” النظام تتّسع للأخذ والرد بأساسيات وجوده!

لم يُسأل أو يحاسب رامي مخلوف على ما قال، بل برّر النظام له ما قال بصفاقة عزّ مثيلها في النموذج الذي نناقش، وهذا هو الأهمّ.
منذ آذار 2011 لم يوفّر النظام السوري سلاحاً إلا واستخدمه ضد المدن والقرى التي انتفضت عليه، بحيث كانت الأزمة تمرّ بأطوار ومراحل مختلفة، لكنها مكمّلة لبعضها. فلا البنادق، ولا الدبابات عادت تكفي في حربه على شعبه، فصعّد لإستخدام الطائرات وصواريخ “سكود”، و”توشكا”، والقنابل العنقودية والفوسفورية، ثم الأسلحة الكيميائية بمختلف أصنافها، ومنها غاز “السارين”. ناهيك عن عمليات التهجير القسري، والإغتصاب، والتدمير الذي بات ممنهجا، إضافة الى استجلاب الميليشيات الطائفية من كل حدب وصوب، فبماذا اختلف عن “عدوه”؟
ومن نافل القول إنّ أبناء المنطقة الجنوبية، صاحبة السبق في الانتفاض ضد تسلّطه، لا تحاذيهم سوى المملكة الأردنية الهاشمية الشقيقة، والتي أغلقت أبوابها مؤخّرا في وجه السوريين الهاربين إليها خوفا على عائلاتهم، أو بقصد العلاج. إذا، لم يبقَ أمام الجرحى سوى الحدود مع الأراضي المحتلّة. استغل الكيان الصهيوني هذه المأساة بكل ما لها وما عليها، ولم يألُ جهداً في استقبال الجرحى لعلاجهم في المستشفيات التي أقامها على الحدود لهذا الغرض، وهي مستشفيات مدفوعة الأجر، عالجت البعض بشكل انتقائي وضيع. ليقع الجريح – الضحية أمام تناقض مأزقي صارخ: إمّا الموت، أو العلاج على يدي أعدائه!
لكن طريقة تعاطي إعلام النظام ومواليه مع المسألة، تأخذنا إلى طرح يأخذ شكل السؤال المأساوي: ما المطلوب ممّن جُرح على أيدي قوات النظام ومليشياته؟

لكأنّ الطرح يستبطن الإجابة التالية: على من يُجرح على أيدينا أن يموت حفاظاً على معادلة العداء مع الكيان الصهيوني، خدمةً لنا، وحفاظا على استخدامنا لهذه المسألة كذريعة تشرّع لنا ما نقوم به ضدّه. وهو ما يأخذنا إلى سؤال آخر: إن كانوا متّهمين أصلاً بالعمالة للعدو، ولهذا السبب يقتلهم النظام وأعوانه ذوو اللون الطائفي الواحد، ويجرحهم، ويهجّرهم، لماذا يُستهجن علاجهم على يدي هذا العدو؟!
والمسألة على أهميتها، تستوجب من النظام الإجابة على سؤال آخر، يساعد على حلحلة هذا الإرباك، وتفكيك ما به من غموض: ما الفرق بين ما فعله العدو الصهيوني ماضيا وحاضرا، وبين ما يفعله النظام منذ ثلاث سنوات، كي لا نقول منذ وصوله الى السلطة في ستينيات القرن الماضي؟
وإذا كان وعي الشعب السوري قد تشكّل على العداء لهذا العدو، ألا يساهم النظام الآن بتشكيل وعي جديد آخر، لن يمسح من ذاكرة الشعب السوري أبدا. لا بل إنّ أثره قد لا ينتهي بسهولة إذا ما قادتنا ممارساته المتماثلة مع ممارسات العدو، لرسم خارطة جديدة للمنطقة على أساس طائفي، يشرّع للعدو استمراره، ويلغي أسباب العداء له؟
من حيث الشكل، تنسجم قضية الجرحى الذين يعالجون في الأراضي المحتلة، مع ما طرحه رامي مخلوف في العام 2011. ومن حيث المضمون، يختلف تعاطي النظام مع المسألتين، فالجريح مُجَرَّم بالتعامل مع العدو، فيما يُعتبر ما قاله رامي مخلوف، رأيا شخصيا، في ظلّ نظام معظم معتقليه، منذ نشأ، من أصحاب الرأي.
هذا ما يوصلنا إلى استنتاج يُطرح على الشكل التالي: العلاقة مع العدو الصهيوني (تعاملا، أو مقاومة)، لا تعنِ النظام من قريب أو بعيد، إلا بالقدر الذي يخدم مصالحه، ويؤمّن شروط استمراره وسيطرته.

السابق
ماذا سيقول كينان لأوباما؟
التالي
تكريم الناجحين في صور