ماذا تعني المصطلحات التي تستخدمها انتفاضات الربيع العربي؟

من بين الجوانب التي بقيت بعيدة من التداول في انتفاضات العالم العربي خلال العام 2011، نذكر بروز مصطلحات سياسية جديدة، واكبت عمليّة استبدال الأنظمة الديكتاتوريّة التي كانت قائمة على الترهيب بقوى شعبية مناضلة في سبيل إيجاد حكم بديل يستند إلى نظام دستوري جديد. وفي البدء، كان من الواضح أنّ المصطلحات الأساسيّة المتداولة فيها الكثير من الإبهام، ونذكر من بينها لفظتي «الثورة» و «الديموقراطية». وفي مرحلة لاحقة، بذل معلّقون من الخارج والداخل جهوداً، محاولين إصدار تعريف أكثر دقّةً لجملة أنواع الأنظمة الناشئة، فلجأوا أحياناً إلى استخدام كلمات مستقاة من المفردات الغربية، مثل «الشعبوي» و «النقابي» أو حتى «البونابارتي»، للدلالة على المبادئ الأساسيّة للعلاقات الناشئة بين الحكومات والمحكومين منها. وفي نهاية المطاف، وابتداءً من الآن، بدأت تبرز مجموعة من المصطلحات الجديدة، التي تهدف إلى تحديد بعض المشاكل التي تواجه الدول التي تمرّ بمراحل انتقالية صعبة. وعلى سبيل المثال، تُستَعمَل كلمة «موقت» للمؤسسات غير الدائمة التي يتم استحداثها لتوجيه عملية الانتقال إلى الديموقراطية في تونس. إلى ذلك، يُستعمَل مصطلح «الأمن» لاختصار الكثير من المخاوف الرئيسة المرتبطة بفرض الأمن داخلياً وبالتحرّكات غير الخاضعة لأيّ رقابة عبر الحدود.

وفي ما يأتي، أقترح طرح سؤال عن معنى واستخدام ثلاثة مصطلحات بالغة الأهمية، إنما مبهمة، هي: «الدولة العميقة»، و «الفساد»، و «المجتمع المدني».

تطوّر مفهوم «الدولة العميقة» في تركيا لوصف الاستمرارية داخل الجيش ووكالات الأمن والاستخبارات، وهو لم يتغيّر نسبياً على مرّ الحكومات المنتخبة، فدلّ على شبكة من «رجالات الجيل القديم»، خُيّل للبعض أنّهم يملكون السلطة التي تخوّلهم تنظيم الانقلابات، أو ممارسة أنواع ضغوط مبطّنة على السياسيين المنتخَبين. ومن الواضح أنّ هذه القوى لها حضور في العالم العربي أيضاً، مع أنّه تصعب معرفة الكثير عنها، بالنظر إلى السرية التي تحيط بلا أدنى شكّ بنشاطاتها. ونظراً إلى معرفتنا الضئيلة بتركيبات السلطة في مصر، من الواضح أنّ من السهل المبالغة في تحديد مدى التجانس فيها، لا سيّما أنّ الجيش يشكّك في قدرات الشرطة لعدد من الأسباب، بدءاً بالأساليب القاسية وغير الفاعلة التي تلجأ إليها لضبط الحشود، وصولاً إلى مقاومتها الشديدة للإصلاح.

إلى ذلك، تبرز أسئلة أخرى، على صلة بالسبب الذي جعل مصر، ذات البنى المؤسسية القوية في الصميم، تبدو غير قابلة للحكم نسبياً، بمعنى أنها عاجزة عن معالجة مشاكلها الضخمة، لا سيّما أنّها أخفقت في توفير أنظمة فاعلة في مجالات التربية، والخدمات الاجتماعية، وتوفير السكن لأفراد الشعب، وحماية البيئة. ولعلّ الإجابة عن ذلك تكمن في أنّ الأجزاء المكوّنة للدولة العميقة في هذه الدولة منهمكة إلى حدّ كبير في حماية مصالحها المؤسسية الخاصة، لكنّ قوّتها قد لا تكون بالحجم الذي ينطوي عليه مفهوم اللفظة بحدّ ذاته.

إلى ذلك، تُعتبَر لفظة «الفساد» من المصطلحات المستعمَلة التي تفتقر إلى الدقة، وهي مستعمَلة على ما يبدو لوصف أيّ أمر، بدءاً بالمحاباة والرشوة، ومروراً بالمفهوم الأوسع نطاقاً لدولة تديرها مجموعة صغيرة من الأصدقاء العاملين لتحقيق مصلحتهم الاقتصاديّة الخاصّة. ويبدو أنّ الكلمة ذاتها، في أي لغة كانت، تظهر في عدد من فئات المفردات المختلفة، بدءاً بالمصطلحات الدينية، ومروراً بالقانونية منها، ووصولاً إلى المفردات اليومية. وبنتيجة ذلك، يعدّ النقاش المنطقي مستحيلاً نسبياً إن لم يتم تحديد فحوى المصطلحات مسبقاً.

وللأسباب ذاتها، يستحيل إجراء نقاش منطقي في ما إذا أصبح المصطلح، بغض النظر عن ماهيّته، أسوأ أو أفضل من ذي قبل. إلا أنّ ما نراه أمامنا هو مجموعة روايات عن كلّ مصطلح تتسم بطابع شخصيّ كبير، وتنطوي، وفق خبرتي الطويلة في نقاشات من هذا النوع، على إشارات خاصة تتراوح بين تكاليف زفاف ابنة أحد الحكّام في فندق فخم، وبين المعدّل الحالي للعمولات التي يتقاضاها الوسطاء في العقود الحكوميّة المبرمة. ويهمّ التذكير في هذا السياق بأنّ مؤشر الفساد الدولي في البنك الدولي لا يكفي، كونه يرتكز على أسئلة تُطرَح على الشركات الأجنبية حول التكلفة الضمنيّة لإطلاق أعمال في هذه الدولة أو تلك.

ومن الأفضل في رأيي العودة إلى المفهوم القديم للفرق بين الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي، أي الاقتصاد الخاضع للضريبة ولتنظيم حكومي جزئي، وبين الاقتصاد الآخر الذي يضم مجموعة متكاملة من ممارسات الاستيراد والتصدير عبر الحدود، والتي تُعتبَر أشبه بعملية التهريب، علماً أنّ تهريب النفط المدعوم في مصر وليبيا عبر الحدود التونسية هو خير مثال على ذلك، إذ إنّ عائداته تساوي بحجمها، وفقاً للبعض، حجم إجمالي الناتج المحلّي الرسمي لذلك البلد.

وأخيراً نصل إلى مفهوم المجتمع المدني المستخدَم في شكل مفرط وكثيف، على رغم أهميته البالغة. وعلى ما فهمته، فإنّ استخدامه الغربي نابع من أصلين، أوّلهما مستقى من الفيلسوف الألماني هيغل، الذي ارتأى أن العبارة نشأت من ترابط ذي طابع قانوني، لا يمكن أن يحصل إلا من خلال توفير دعم حكومي، في حين أنّ الأصل الثاني مستقى من تجربة أوروبا الشرقية، القائمة على المعارضة الشعبية للأنظمة الشيوعية السابقة المدعومة من الاتحاد السوفياتي، مع الإشارة إلى أنّ التعريف الثاني هو المهم في الوقت الراهن، كونه يوفّر حافزاً لمجمل المجموعات المعنيّة بتحقيق المصلحة العامة، ولعدد كبير من الأشخاص الذين يديرهم ناشطون شبّان، في سبيل استعمال وسائل التواصل الاجتماعي لمراقبة الوسائل الرسمية المستعملة لمحاسبة العموم على نطاق أبعد، وفي بعض الحالات رغماً عن مشيئة أعضاء الأحزاب السياسية الجديدة. وخير مثال على ذلك، كيفية إقدام ناشطين تونسيين شبّان على مراقبة مدى ملازمة أعضاء البرلمان مقاعدهم في المجلس، بدلاً من اكتفائهم بإقامة علاقات اجتماعية في إحدى الغرف العامة، على خلفيّة مطالبة هؤلاء بمستحقاتهم لقاء حضورهم في البرلمان.

وثمّة طرق أخرى يستخدمها الأعضاء الفاعلون في المجتمع المدني لملء الفراغ الذي خلّفته المؤسسات الرسميّة الناشئة من الدستور الجديد، ومجموعات حقوق الإنسان القديمة التي أرساها أسلافهم. وتتمثّل الطريقة الأولى بالتحدّي الناتج من إشراك بعض الأقليات، التي لم تتكيّف ربّما مع المعايير الجديدة للمواطنية، أو التي تعيش في مناطق ريفية أو جبلية نائية تحول دون اطّلاعها على مجرى الأحداث. وفي هذا السياق، يمكننا الكلام على النساء في شمال أفريقيا، وعلى الطوارق ومجموعات البربر الأخرى، إلى جانب المهمّة الرئيسة التي أرساها عدد من ناشطي المجتمع المدني الشبّان، والتي تقضي بمراقبة خفايا الفساد والدولة العميقة.

* اكاديمي بريطاني – جامعة هارفارد

السابق
لجنة البيان تناقش بنـد المقاومة ولسـليمان ثلاثيتـه
التالي
عاطف مجدلاني أكد رفضه حصر المواجهة مع اسرائيل بالمقاومة