شاعر الحب والظرافة نور الدين بدر الدين 1910-1978

عندما طلب الأديب الشيخ علي الزين من الشاعر نور الدين بدر الدين في السبعينيات من القرن الماضي أن يزوّده بما عنده من قصائد فكاهية كي يدوِّنها في كتابه طرائف العامليين أسوة بغيره من شعراء جبل عامل، وردته رسالة من شاعرنا جاء فيها:

«قبل إجابة مطلبك أود أن أطلعك على الناحية الشعرية الخاصة التي يعرفني بها المقرّبون فقط، وهي الشعر القصصي المنطلق من كل قيد، المصور لحوادث غرامية واقعية أو خيالية دون التزام بقيود العرف والعادة، أو شئتم بالآداب العامة، ومن الذين كانوا يطلعون على شعري يومئذ الشيخ علي الزين رئيس (عصبة الأدب العاملي) يومئذ وقد أطلق علي لقب (عمر بن أبي ربيعة)، وقد خدعت بأقوال الشيخ علي واعتقدت أني أصبحت كذلك ولم أتورع عن التلميح إلى هذا، أولاً تسمية ولدي خطاب، وثانياً في قصائدي المشار إليها».

فمن قصائده التي تقارب حدّ المجون ولم تتمجّن تلك التي جرت حوادثها في النبطية وكان عيّن مدرساً فيها وتعرف على صديقه الأستاذ جعفر الأمين فكانت تلك المعرفة فأل خيرٍ على دنيا الشعر الأدب لما انحنت به الربوع العاملية من محاسن وطيب شعر المراسلات الذي اشتهر بين الشاعرين وذلك بعد أن انتقل السيد جعفر إلى قريته شقرا مديراً لمدرستها وبدأ الأستاذان بالتراسل يبنيان أشواقهما شعراً وسخرية ولهواً.

غزوات غرامية

يقول شاعرنا نور الدين بدر الدين في هذه القصيدة:

حسناء في شرك الهوى أوقعتها والنفس في طيب اللقا عللتها
ما زلت أرقب غفلة عن أهلهاحتى إذا نام الرقيب قصدتها
فوجدتها خضعت لسلطان الكرىفدخلت في حذر ومذ أيقظتها
فتحت ذراعيها معانقة وقدعطفت عليَّ تضمني فضممتها
حتى إذا ثار الغرام بصدرهاودنت تقبلني وقد تيمتها
عبقت يداي بها وكان مشجعيأن استمر على التمادي صمتها
حتى تقضى الليل وهي تود أنلا ينقضي ليل به غازلتها
فنهضت خوفاً أن يرانا عاذلوعلى مواصلة اللقا ودعتها

وفي قصيدة أخرى مسرحها إحدى القرى المجاورة للنبطية أيضاً يصف إحدى غزواته الغرامية:

وصلت مقرها وكأن قلبييكاد لقربها شوقاً يطير
ولكن ما بنيت من الأمانيتداعت وأمحت تلك القصور
فقد أبصرت وكر الحب قفراًفلا خل هناك ولا سمير
وإذ قد لاح لي نور ضئيلأنست به وعاودني السرور
فتحت الباب في حذر ورفقمخافة أن يؤرقها الصرير
ومذ قاربتها انتبهت وصاحت بذعر: من هنا. فأجبت «نور»
تبدد ما اعتراها ثم قالت جعلت فداك ما هذا الغرور؟!
فقلت دعي الملام فقد دعانيإليك الوجد والشوق الوفير
وها قد نامت الرقباء عناووقتي يا معذبتي قصير
فكان جوابها أن عانقتنيوغاب العقل عنا والشعور
قضينا الليل في اللذات حتىصحا الغافي وزقزقت الطيور

وفي مقدمة طريفة لديوان الشاعر المطبوع حديثاً بقلم صنوه وزميله الشاعر جعفر الأمين وكان قد حاول جمعه شاعرنا ثم تقاعس لأسباب صحية قبل وفاته يقول السيد جعفر مخاطباً صاحب الديوان في كتاب مؤرخ أول نيسان عام 1976:

هل سمعت بالشاعر الفرنسي بودلير صاحب كتاب (أزهار الشرّ)؟ فهو شاعر افتكر وتعلم أما أنت فقد افتكرت وعملت ثم نظمت.

لا تقل (مرسي مسيو) وتهز رأسك كالحرذون في حرّ آب!! ولا تحسب أن طربوشك المزفت أصبح برنيطة فتهم برفعه للوداع كأن الباخرة شبليون بانتظارك لتذهب بك إلى فرنسا للدخول إلى الأكاديمي بين الأربعين عضواً الخالدين، فأنا لا أقول أنك مثله، فتاريخك وأمتك لا تلد مهما سمت إلا أنصاف رجال وأشباح عظماء ولكنك وفي قومٍ مثل قومك «البودلير وزيادة» والقرد في عين أمه غزال!! لقد شبعنا تقليداً ومللنا السير وراء الغير كقطيع الغنم وتمشي رؤوسها بين أرجلها همها تتبع الخطى والسير على صوت الجرس وهي لا تدري أإلى المرعى تساق أم إلى المسلخ!

..جبة سوداء وعمّة خضرا

ولما نقل الأستاذ نور الدين مرّه إلى إحدى قرى الجنوب المتاخمة لفلسطين ولم يستطع البقاء فيها طويلاً لصعوبة العيش هناك، وجّه أبياتاً إلى المرحوم رياض الصلح وكان رئيساً لمجلس الوزراء على شكل كتاب راجياً نقله إلى مركز آخر. وهذا ما حصل والأبيات هي هذه:

أيمكن في بليدا أن أعيشاإذا صمتوا وإذا نطقوا وحوشا!
يرون نفوسهم كبراً ملوكاًومن سفهٍ مزاجهم عروشاً!
وإن صورتهم – ولهم زعيمٌوأحكمت الصناعة والرتوشا
رأيت الفن يطلقهم بحقحميراً حكموا فيهم كديشاً!
أغتني لن أطيق بها حياةولو مسخت حجارتها غروشا

وفي قصيدة أرسلها السيد جعفر الأمين إلى الأستاذ نور الدين في النبطية:

إليك (أبا الخطاب) ترجع بي الذكرىوتبعث بالأطياف حالمة سكرى
تعود إلى ماضٍ حبيب حبيتهوأخوة صدق عشت بينهم دهرا
نسيت لديهم كل حيفٍ لقيتهوأنقذت نفسي من جهنمي الحمرا!
علي لكم دين أود وفاءهتحملته دهراً ونئت به ظهرا
فلو كان بالامكان صهر عواطفيملأت سماكم من تفتقها عطرا
ولو أنني أستطيع عصراً لمهجتيلكنت أسلت الأرض من تحتكم خمرا!
ولكنني والحمد لله عاجزٌ فلا نفع عندي ترتجيه ولا ضرا
فلم يبق لي والحال ما قد علمته سوى (أضعف الإيمان) أرسله شعرا

فأجاب شاعرنا:

(أبا أكرم) بدلت من حلونا مرّاوخلفتنا من كل مأثرة صفرا
نأيت فلم يملأ فراغك سيّدوتاهت علينا في سيادتكم (شقرا)
لأن جد فيك الشوق نحوي فأننيأقيس ذراعاً كلما قست شبرا
فرب دهرٍ ليس يعدل ساعةوساعة أنسٍ فيك قد تعدل العمرا
نحنُّ إلى الماضي ونشتاق قربكموإن كنت أعلنت القطيعة والهجرا
وقد كان أولى أن نسومك ذلّةفعدنا رضينا في جهالتكم قسرا
فمن طبعنا حفظ الذمام وأنهعزيز علينا أن ندير لكم ظهرا
عهدناك لا تأوي لغير قطيعناولست تطيق البعد عنا ولا الصبرا
وبت بشقرا لا ترى لك مؤنساًسوى جبّة سوداء أو عمَّة خضرا!
فهاجتك أطياف النعيم بقربهافعدت كئيباً كالح الوجه مغبّرا

وفي قصيدة للشاعر الأستاذ بدر الدين بعنوان (خيبه) عقب نقله إلى إحدى القرى النائية:

قضى يا صاحبي أمر الحكومةإلى بلد الدمامة والخصومة
فكيف أعيش فيه؟ فلا جمالتطيب به الحياة ولا نعومة
وأيّان التفتُّ فلست ألقى أمامي غير أشكال دميمة!
ولكن إبنة الجيران كانتبنسبتهنّ جوهرة يتيمة
وقلبي لا تلذّ له حياةبغير الحب كي ينسى غمومه
أبى إلا التعلق في هواهاولست بمستطيع أن ألومه

..لو أن عنتر مثل حظي حظه

تواعد السيد نور الدين بدر الدين وكان معلم مدرسة (الزرارية) والسيد جعفر الأمين معلم مدرسة (كفرصير) آنذاك للذهاب مع تلامذتهما إلى القاسمية للتفرج على المشتل الزراعي هناك على أن يمرّ السيد جعفر عليه في الزرارية ليذهبا معاً ولكن حالة الطقس السيئة حالت دون وفائه بالوعد فكتب إليه الشاعر هذه الأبيات ساخطاً على صديقه:

لمَ لم تفِ فيما وعدت وتحضروتحيد عن سنن الرياء يا جعفر
هل خفت من حرا الهجير ونفحهحتى ثنيت عن الوفا يا أسمر
قالوا ترى ذاك المعلم كاذبافي وعده أم أنه متكبر
أفلست ظالمهم إذا ما لمتهمإن وبخوا لجنابكم زفّروا
هدأتهم وأنا أعزيهم علىما ضيّعوه لأجلكم وتخسروا
قلت اذهبوا واستبدلوا ما فاتكممن نزهة وعلى طعامكم أفطروا
ولقد هجوتك دون خوف ساخطاًوحكمت بالاجماع أنك «أزعر»
لمَ لم تفِ فيما وعدت وتحضروتحيد عن سنن الرياء يا جعفر
هل خفت من حرا الهجير ونفحهحتى ثنيت عن الوفا يا أسمر
رجعوا حيارى خائفين وقد علتأصواتهم بالاحتجاج وثرثروا
قالوا ترى ذاك المعلم كاذبافي وعده أم أنه متكبر
أفلست ظالمهم إذا ما لمتهمإن وبخوا لجنابكم زفّروا
هدأتهم وأنا أعزيهم علىما ضيّعوه لأجلكم وتخسروا
قلت اذهبوا واستبدلوا ما فاتكممن نزهة وعلى طعامكم أفطروا
ولقد هجوتك دون خوف ساخطاًوحكمت بالاجماع أنك «أزعر»

فأجابه السيد جعفر:

ما كنت كذاباً ولا أنا أزعرتنفي الحقيقة ما تقول وتنكر
تأبى لي السوآت نفس عفةوسريرة بيضاء وقلب أطهر
لو كان يدري الناس بعض فضائليلغدوت أُرْقَى عندهم وأُبخر
ولو أنني قد عشت في زمن مضىصلوا علي مع النبي وكبروا!
ولطاف لي فوق البسيطة منبرأوفى إليه وفي القيامة منبر
ولعشت ديكاً في الحياة وبعدهاحور وولدان ودف ينقر
لكني وهنا يتعتع مقوليخط الحقير بذي الحياة معتر
ما رحت أطلب من زماني بغيةالأرواح لما أروم يؤخر
إن قمت يدفعني الطموح إلى العلىألفيتني بجراب بيضي أعثر
لو أن عنتر مثل حظي حظهقسماً لما قهر الفوارس عنتر!
ولما جَنى من ثغر عبلة قبلةولما انجلي عن إليتيها مئزر!
فإذا بُليت بأزعر خلع الحيافالدهر قبلك يا «معرِّض» أزعر!
ما كنت كذاباً ولا أنا أزعرتنفي الحقيقة ما تقول وتنكر
تأبى لي السوآت نفس عفةوسريرة بيضاء وقلب أطهر
لو كان يدري الناس بعض فضائليلغدوت أُرْقَى عندهم وأُبخر
ولو أنني قد عشت في زمن مضىصلوا علي مع النبي وكبروا!
ولطاف لي فوق البسيطة منبرأوفى إليه وفي القيامة منبر
ولعشت ديكاً في الحياة وبعدهاحور وولدان ودف ينقر
لكني وهنا يتعتع مقوليخط الحقير بذي الحياة معتر
ما رحت أطلب من زماني بغيةالأرواح لما أروم يؤخر
إن قمت يدفعني الطموح إلى العلىألفيتني بجراب بيضي أعثر
لو أن عنتر مثل حظي حظهقسماً لما قهر الفوارس عنتر!
ولما جَنى من ثغر عبلة قبلةولما انجلي عن إليتيها مئزر!
فإذا بُليت بأزعر خلع الحيافالدهر قبلك يا «معرِّض» أزعر!

                       

السابق
بو غيدا طلب الاعدام للأسير
التالي
مقاتلو “داعش” انسحبوا من مدينة سورية قرب الحدود التركية