ثورات في كل القارات

تمر على علماء السياسة ومراقبيها وهواتها أيام مثيرة. ففي القارات الأربع “ثورات” جماهيرية ناشبة في دول عديدة. قد تختلف أسبابها المباشرة ونقاط تفجرها، ولكن يجمع بينها بيئة دولية مشحونة بتداعيات أزمة اقتصادية متشبثة بالبقاء وجاهزة للتشعب. يجمع بينها أيضا أنها تحدث في مرحلة تاريخية مبهمة، بدأت انتقالية بين نظام دولي وآخر واستمرت هكذا.

إلى جانب ثورات الربيع العربي التي دخلت عامها الرابع، وما زالت تضيف إلى مخزون تجارب الثورات وعلومها وفنونها ومآسيها، وما زالت، في ظني، قادرة على أن تفاجئ العالم الخارجي وتفاجئنا بتطورات غير متوقعة، إلى جانب هذه الثورات انشغل العالم بثلاث “ثورات” أخرى، واحدة في أوروبا والثانية في آسيا والثالثة في أميركا اللاتينية. قد لا تستحق أي منها صفة الثورة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، إلا أنها تقع بالتأكيد ضمن قائمة طويلة من أنواع النشاط “الثوري”، أي النشاط الداعي إلى تغيير الوضع القائم باستخدام قوة “الميدان”. ثورتان من الثلاثة نشبتا في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي والثالثة انطلقت قبل أسابيع قليلة، وما زالت الثورات الثلاث حتى وقت كتابة هذه السطور مشتعلة بدرجات متفاوتة. ثلاثتها شغلت العالم وثلاثتها مع تطورات شبيهة في أفريقيا اخذت من وقتي جانبا معتبرا في محاولة للبحث عن العناصر المشتركة في إشعالها واستمرارها. كانت تجربة مفيدة ذهنيا واستحقت ما بُذل فيها من جهد، وفي ما يلي بعض النتائج أعرضها بالإيجاز الممكن:
أولا: في الحالات الثلاث، أوكرانيا وتايلاند وفنزويلا، خرجت تظاهرات الاحتجاج، والتمرد ضد حكومات شرعية منتخبة ديموقراطيا وكان شاهدا على نزاهتها مراقبون دوليون وجرت في أجواء حرة. هنا يجدر الانتباه إلى أنه في حالتين على الأقل، وهما أوكرانيا وفنزويلا، يقع التمرد على تجربة ديموقراطية وضعت أسسها ثورة إصلاح كالثورة البرتقالية في أوكرانيا والثورة البوليفارية في فنزويلا.
ثانيا: لم ترصد جهة خارجية، أو تشكو جهة داخلية من اشتراك الجيش أو أي فرع من القوات المسلحة في عمليات التصدي للمتظاهرين أو حماية ممتلكات الحكومة والمرافق العامة. لم يتدخل الجيش ضد المتظاهرين في تايلاند أو فنزويلا وهما المعروفتان بتاريخ طويل من تدخل الجيش في السياسة. ففي تايلاند تدخل الجيش منذ عام 1932 حوالي إثنتي عشرة مرة في شكل انقلاب عسكري كان آخرها في عام 2006. ولم يتدخل في اوكرانيا.
ثالثا: لفت نظري أنه في الحالات الثلاث صبت الجماهير غضبها على المباني الحكومية تحديدا دون غيرها. ففي تايلاند تجمعت الحشود حول مقار الحكومة واحتل الثوار مكاتب الوزارات ومنعوا المسؤولين الحكوميين من مباشرة عملهم لشهور متعددة. وفي أوكرانيا، خاصة في العاصمة كييف، كان هدف الثوار مباني البرلمان ومباني الحكم والميدان الرئيس في العاصمة: ميدان الاستقلال. هكذا كان الحال إلى حد ما في تظاهرات مدينة كراكاس بفنزويلا، وفي كل الحالات كانت مباني وزارة الداخلية هدفا أساسيا للمتظاهرين وكان عزل وزير الداخلية مطلبهم المبكر. ألفت الانتباه إلى أن “وقف” أعمال الدولة كاد يصبح في حكم الظاهرة في أنحاء شتى من العالم، حتى أن الكونغرس الأميركي صار يستخدمه كإجراء يعبر به عن سخط المعارضة.
رابعا: كان المتظاهرون في أغلب الأحوال من أبناء الطبقة الوسطى، فهي الطبقة التي تسعى في أوكرانيا إلى دفع الحكومة لتوقيع اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، على أمل أن تؤدي العلاقة مع بروكسل إلى زيادة فرص الهجرة وإنعاش الاقتصاد في البلاد. وفي تايلاند اقتصرت “الثورة” على مدينة بانغكوك ولم يشترك الريف فيها، باعتبار أن الثورة تستهدف العائلة الحاكمة، بعد أن حاولت السيدة ينجلاك رئيسة الوزراء إصدار قانون عفو عام يستطيع بمقتضاه شقيقها تاكسين، رئيس الوزراء الأسبق، العودة من منفاه في دبي، الأمر الذي ترفضه الطبقة الوسطى التي عانت الأمرين من فساد نظامه واعتماده على أساليب «شعبوية» ليكسب بها عواطف الفلاحين. هؤلاء الفلاحون هم انفسهم الذين ارتدوا القمصان الحمر قبل عامين واحتلوا شوارع بانغكوك مطالبين بإجراء انتخابات حرة جاءت بشقيقة تاكسين إلى الحكم.
أما في فنزويلا، فقد نشب التمرد الحالي ضد حكومة مادورو خليفة هوغو تشافيز في مدينة سان كريستوبال، وهي مدينة ذات طابع خاص إذ تقع على حدود فنزويلا مع كولومبيا حيث للاضطرابات والحرب الأهلية والنفوذ الأميركي تاريخ طويل، كما انها، أي المدينة، تعتبر من أهم المواقع الثقافية ومعقلا من معاقل الحركة الطلابية ومركزا من مراكز الطبقة الوسطى. كان الدافع المباشر للتمرد حادث اغتصاب في إحدى الجامعات ولم تتصرف إزاءه قوى الأمن التصرف المناسب.
خامسا: في الحالات الثلاث لعبت “فلول” العهود السابقة دورا هاما في إشعال الاضطرابات. استنفرت قوى المال ورجال الأعمال لتمويل التظاهرات واستخدمت صلاتها بالخارج لإثارة الرأي العام العالمي لمصلحة المتظاهرين. في تايلاند مثلا، ما زال رجال الأعمال المنافسون لتاكسين رئيس الوزراء الأسبق، يدعمون جهود الطبقة الوسطى ضد حكومة شقيقته، ويتحالفون مع مؤسسة القضاء والبيروقراطية لشل عمل الحكومة. وفي فنزويلا، كان واضحا الدور الذي قام به في الاضطرابات الحالية أنصار السنيور إنريكي كابيللي الذي رشح نفسه ضد تشافيز في عام 2012 ممثلا لطبقة الأغنياء ورجال الأعمال والقوى المحافظة.
أما في كييف عاصمة أوكرانيا، فقد بدت الأمور أشد تعقيدا. إذ إن قوى “الفلول”، إن صح التعبير، أي القوى التي كانت تحكم قبل ثورة البرتقال كانت هي نفسها التي تهيمن على حكومة كييف عندما نشب التمرد الراهن. هي القوى التي تراهن على علاقة أوكرانيا بروسيا وتتردد في الانضمام للحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وتعتمد على أقاليم الشرق الأوكراني المعتمد بدوره اعتمادا كبيرا على روسيا في الطاقة والتجارة وسد العجز في الميزانية، وهو الإقليم الذي يتكلم سكانه بالروسية ويعتنقون الأرثوذكسية. لذلك لم يكن غريبا ان تتعامل هذه القوى المعادية لثورة البرتقال مع المتمردين الجدد على أنهم “إرهابيون وفاشيون ويستخدمون الأسلحة النارية”، وأن تلجأ إلى أساليب غير حكيمة لقمع المعارضة مثل إصدار قانون لمنع التظاهر، وهو ما أدى إلى زيادة كبرى في أعداد المتظاهرين وفي قوى الاحتجاج، كما انها استخدمت درجات قصوى من العنف لفض الاعتصامات وإخلاء الميادين، فتسببت في لفت أنظار الرأي العام العالمي ودفعه إلى التعاطف مع الثوار.
سادسا: في حالتين من الحالات الثلاث تدخلت شخصيات وجماعات تدعو الطرفين المتصارعين إلى القبول بفكرة إقامة “حكومات غير منتخبة” مثل حكومات جبهة وطنية أو تحالف قومي أو مجلس حكماء تدير شؤون الدولة لفترة انتقالية. حجة هؤلاء أن البلد غير جاهز للديموقراطية، وانه من غير المستحب زيادة الانقسامات والخلافات نتيجة الحملات الانتخابية. مرة أخرى تتكرر الدعوة إلى “تأجيل” الديموقراطية لمصلحة الوحدة الوطنية، مرة أخرى يجري تفضيل كبار السن وتجاهل الشباب. بمعنى آخر يجري تجاهل حقيقة أن ثورات نشبت في تلك البلدان، وإنكار أن “الحالة الثورية” ما زالت قائمة.
سابعا: في حالتين على الأقل، اتجهت أصابع الاتهام نحو واشنطن تتهمها بالتدخل لإثارة التظاهرات. ففي كل من فنزويلا وأوكرانيا أعلنت الحكومتان أنهما تعتبران الولايات المتحدة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن إثارة الفوضى في البلاد حين قامت بتمويل الإعداد للتظاهرات وتدريبها الشبان الذين تولوا قيادتها. وفي كلا البلدين نشرت وثائق ويكيليس التي تكشف عن أموال أميركية كانت قد خصصت لتدريب قادة التمرد. وفي الحالات الثلاث تدخلت الولايات المتحدة بدرجات متفاوتة لدعوة “طرفي” الصراع إلى “الحوار الهادئ وضبط النفس”، وهي الدعوة التي أكدت للأطراف الحاكمة في الدول الثلاث انحياز أميركا للمتظاهرين حين ساوت بين الحكومات والمتظاهرين، متجاهلة “أعمال التخريب والإرهاب والفوضى” التي يقوم بها المتطرفون من المتظاهرين.
تتأكد يوما بعد يوم العلاقة الوطيدة بين موقع بلد «الثورة» وطبيعة الدور الخارجي. لا تشعر وأنت تراقب تطور الأحوال في تايلاند أن للعنصر الأجنبي أهمية كبرى، إذ لا يزال السباق الأميركي الصيني على مناطق النفوذ في آسيا بعيدا عن الصدامات والأزمات المباشرة، فضلا عن خصوصية تتمتع بها معظم دول جنوب شرق آسيا وهي عدم وجود ايديولوجيات قومية أو اجتماعية أو سياسية عابرة للحدود، لذلك يمكن أن تبقى الثورة في دولة محصورة داخل حدودها.
يختلف واقع تايلاند عن واقع فنزويلا، حيث توجد الأخيرة في إقليم تنتقل فيه الثورات عبر الحدود بسهولة انتقال الأفكار والمخدرات والأسلحة. من ناحية أخرى، يختلفان في أنه بينما تهيمن دولة عظمى منفردة على معظم أنحاء أميركا الجنوبية، وبسجل في التدخل يعود إلى مئات السنين، لم تبلغ دولة آسيوية من العظمة والقوة ما يسمح لها بفرض الهيمنة والتدخل بحرية في شؤون دول أخرى.
تبقى أوكرانيا نموذجا لدولة يغري وضعها الجيوسياسي القوى العالمية الكبرى بالتدخل في شؤونها بل ومحاولة تقرير مستقبلها. لن يكون صعبا على مراقب أجنبي أن يتوصل إلى نتيجة مؤداها أن روسيا لا يمكن أن تتساهل تجاه جهود أميركا وغرب أوروبا سلخ أوكرانيا من دائرة الجوار الروسي، وان أميركا ودول الغرب لن تتوقف عن بذل جهودها لمنع روسيا من جني ثمار جهود الهيمنة على دول الجوار أملا في استعادتها واحدة بعد الأخرى.

السابق
كفى… مريع ما يحدث في سوريا
التالي
اوكرانيا تستدعي القائم بالاعمال الروسي وتدعو الى احترام سلامة اراضيها