تفاصيل قتل معروف سعد التي عشتها لحظة بلحظة

يوميا تروى للمرة الأولى على لسان رجل عاش تلك الأيام والليال، قبل وبعد اغتيال معروف سعد في صيدا العام 1975. كيف تم التحضير للتظاهرة؟ كيف تصرّف الجيش؟ ما هو دور صائب سلام وابنه تمّام سلام؟ وما هو دور جورج حاوي وكمال جنبلاط ومحسن ابرهيم؟

المطر ينهمر بغزارة، شوارع صيدا مقفرة، نادراً ما تلحظ ناسا يمرون أمام محل حلويات الرملاوي في شارع رياض الصلح، الساعة تشير إلى الثامنة ونصف مساء الثلاثاء 25 شباط 1975. كنت جالساً ومحي الدين النوام نتحدث عن تظاهرة صيادي الأسماك في الغد ضد شركة بروتيين. أتى أحد مسؤولي الحزب الشيوعي اللبناني آنذاك محي الدين حشيشو يسأل عن عدنان الزيباوي. أخبرته أن الأخير توجه إلى منزله، فطلب مني مرافقته إلى هناك. وفي الطريق أخبرني حشيشو معلومات وصلته من الحزب تفيد بأنّ الوضع لن يكون عادياً غداً، وأن الجيش اللبناني سينتشر ويتخذ إجراءات استثنائية وأنه من الضروري عدم تقديم أي مبرر يسمح له بتنفيذ خطوات قد تكون مضرة بالتحرك.

وصلنا إلى منزل الزيباوي، أعاد حشيشو سرد المعلومات، صغى الزيباوي بانتباه، وبعد تفكير اقترح ذهابنا إلى منزل معروف سعد ونقاش الموضوع معه. وصلنا إلى منزل الأخير، كان باب منزله مغلق بشكل موارب، طرقنا الباب، استقبلنا زهير غزاوي الذي أخبرنا أنّ سعد في اجتماع مع الحزب السوري القومي الاجتماعي، لكننا أصررنا على رؤيته. حضر سعد واستمع إلى كلام حشيشو. طلب سعد أن نتوجه إلى تعمير عين الحلوة لنقاش الموضوع مع رئيس نقابة صيادي الأسماك معروف بوجي واصطحاب يوسف الصفدي معنا.

توجهت وحشيشو والصفدي إلى التعمير. علمنا أن بوجي نقل منزله إلى صيدا القديمة قرب الجامع العمري الكبير. هناك أخبرناه بما نعرفه وأن سعد يطلب منه التدخل لعدم توتير الأجواء ومنع أي شخص قد يعمد إلى تفجير أصابع ديناميت، وافق بوجي ووعدنا خيراً. عدنا إلى منزل سعد لإعلامه بالنتيجة، وعند مغادرتنا، التفت حشيشو نحوه قائلاً: من الأفضل عدم مشاركتك في التظاهرة غداً. لكن سعد ردّ بعصبية: وتريد أن يقول البعض أنّ معروف سعد تخلى عنا وعن مطالبنا. نراكم غداً في التظاهرة.

صباح الأربعاء 26 شباط، الوضع شبه طبيعي، الجيش اللبناني منتشر في ساحة النجمة. مررت بالزيباوي وذهبنا سوية إلى التظاهرة.

التظاهرة كانت صغيرة عدد المشاركين لا يتجاوز الـ150 شخصاً، يسيرون تحت المطر الغزير يتقدمها سعد والدكتور نزيه البزري. خرجت التظاهرة من صيدا القديمة نحو الشاكرية، إلى سوق الخضر.. لتسير في شارع رياض الصلح. عند وصولها إلى بناية صيدا سنتر، صودف مرور شاحنة للجيش اللبناني. بادر أحد المتظاهرين إلى رشقها بالحجارة. ما دفع سعد لنهره ومنعه من التمادي بعمله الاستفزازي وطلب من سائق الشاحنة إكمال طريقه.

وصلت التظاهرة إلى ساحة النجمة. سمعنا صوت انفجار أصبع ديناميت بعيد نسبياً، تلاه عدد من الرصاصات. معروف سعد يهوي أمامنا، أحد الأشخاص كان يحمل مظلة تحمي سعد من المطر أصيب بكفه. المتظاهرون يتراكضون في اتجاهات متفرقة، نفر من الناس بقي لحمل معروف سعد ونقله في سيارة مرسيدس 190 إلى مستشفى لبيب أبو ظهر.

عدت إلى بناية جنبلاط حيث كنت أعمل، حاولنا الاتصال بمنزل كمال جنبلاط الذي كان يرأس اجتماعاً للأحزاب الوطنية في ذلك النهار. خطوط الهاتف لم تسعفنا، جربنا استعمال هواتف فؤاد جنبلاط، د. ناصيف باسيلا، إضافة إلى هاتفنا من دون نتيجة. بعد نحو 15 دقيقة اتصل بنا محسن إبراهيم من منزل جنبلاط يسأل عما يحصل في صيدا، أخبرناه بسرعة تفاصيل الحادث.

نقل سعد إلى الجامعة الأميركية، وصيدا أعلنت الإضراب العام وقطع الطريق الرئيسة. الناس على أعصابها، تتابع وضع سعد الصحي. ثلاثة أيام بعد الحادث والمحال مقفلة والطرق مقطوعة. السبت بعد الظهر، تصل لجنة مكلفة من رئيس الوزراء آنذاك رشيد الصلح للتفاوض من أجل فتح الطرق والاستماع إلى مطالب الصيادين من جهة، ومطالب لجنة 26 شباط الصيداوية من جهة أخرى، اللجنة المكلفة كانت برئاسة الوزير عباس خلف وعضوية محسن إبراهيم وجورج حاوي.

عقدت اللجنة اجتماعاً مع نقابتي الصيادين في صيدا وصور، عند الثالثة بعد الظهر في نادي خريجي المقاصد، استمعت خلاله اللجنة إلى مطالب النقابتين بشأن الترخيص لشركة بروتيين واستمرار عمل الصيادين. بعده انتقل المجتمعون إلى مدرسة عائشة أم المؤمنين الكائنة مقابل النادي للاجتماع إلى لجنة 26 شباط. وخلال الاجتماع وعند الساعة السادسة تقريباً سمعنا أصوات إطلاق رصاص، فخرجت لمعرفة ما يجري، كانت دبابات الجيش وآلياته تدخل الشوارع الرئيسية للمدينة، ساد جو من الوجوم على المجتمعين، حاول خلف مكالمة الرئيس الصلح لاستيضاح الأمر دون طائل. الاشتباكات بدأت في المدينة، والظلام يسدل ظلاله عليها، اللجنة تغادر صيدا عائدة إلى بيروت لمعالجة الوضع.

الأحد في 2 آذار 1975 اجتماعات مكثفة تفضي إلى خروج الجيش من صيدا، وهذا ما تم مساء الأحد. صباح الاثنين صيدا تلملم جراحها وتتهيأ لدفن الذين سقطوا خلال الاشتباكات، الجمهور يتجمّع قرب جامع الزعتري، وفود رسمية وشعبية تشارك في التشييع. كانت المفاجأة وصول الرئيس صائب سلام يرافقه نجله تمام سلام.

عندها هتف المتظاهرون: جايي الرجعية بالشهداء تعزينا / شبوا غندور والنبطية وشو عملوا فينا.

ما دفع سلام الابن إلى التصرف بعصبية. إلا أن والده طلب منه الهدوء والتزام الصمت. بعد دفن القتلى، توجهنا إلى منزل حسيب عبد الجواد لتناول الغداء يرافقنا جورج حاوي الذي أعلمنا أن الوضع الصحي لمعروف سعد دقيق وحرج وربما يحصل الأسوأ.

ظهر الخميس 6 آذار 1975 أعلنت وفاة معروف سعد. أهل المدينة تصرّفوا كما لو أنّهم تيتّموا وخسروا أغلى ما عندهم. الدموع تنهمر من عيون الرجال والنساء، يندبون مرحلة ناصعة من تاريخ المدينة مثلها معروف سعد.

ظهر الجمعة 7 آذار سُجّي الجثمان في الجامع العمري الكبير، ليودعه أهالي المنطقة ولتشهد المدينة أكبر جنازة في تاريخها، ودعت فيها رجلاً تماهى تاريخه الشخصي مع تاريخ صيدا الوطني اللاطائفي.

السابق
شعرها المستعار سبب دعوى بـ 30 مليون دولار ضد ماناج
التالي
برلمان الأردن قرر طرد سفير إسرائيل واستدعاء سفير الاردن من تل ابيب