هل تنتج الشراكة وفاقاً؟

خفضت الأطراف اللبنانية منسوب خطابها ومطالبها وجاءت إلى حكومة شراكة. يعكس ذلك جوّ التفاوض الإقليمي وإظهار بعض النيات الحسنة، وكذلك المأزق الداخلي الذي يتجه إلى التفلت من السيطرة، خاصة مع التحدي المستجد المتمثل بالإرهاب. هناك صدمة غير عادية من هذه المعطيات فرضت شيئاً من التواضع على الجميع نتيجة شعورهم بالعجز. العجز عن إدارة الريح في المنطقة والعجز عن حماية الذات. هذه خطوة إيجابية عساها تؤسس لمراجعة شاملة ولمسار معاكس ينطلق من عدة معطيات واقعية ضاغطة.

رسم الاتفاق الدولي إطاراً عاماً لفاعلية القوى الإقليمية، كما رسمت الاشتباكات الإقليمية حدوداً أخذت تنذر بارتدادات خطيرة على القوى نفسها. إلى حد بعيد تمّ استنفاد معظم وسائل القوة لدى إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية فدخلت جميعها في حال من المراوحة التي تستهلك جزءاً من أوضاعها الداخلية. قد لا يكون هذا التقدير في قناعة الأطراف اللبنانية أو غير محسوم لديها. غالباً ما تكون الجهات “الحزبية” أو الجماعات المنخرطة في نزاعات محكومة لأفكارها المسبقة وتصوراتها وتحتاج إلى المزيد من التحديات والتعقيدات للوصول إلى خيارات مختلفة. هكذا كانت حالنا في “الحروب اللبنانية” وهكذا هي حال القوى الراهنة التي انزلقت إلى سياسات وخيارات لا يمكن في أي حال أن تنتج أوضاعاً حاسمة في مصلحتها. على الأقل هناك دائماً حصيلة مختلفة عن إرادة جميع الأطراف لأن أي نزاع بمستوى ما يدور في المنطقة يخلق ظروفاً ومعطيات جديدة لا تشبه التوقعات والطموحات. وبصرف النظر لأسباب عملية ومنطقية عن خلفيات النزاعات وكيفية التعامل معها و”الخطأ الأصلي” الذي قامت عليه النتائج الحالية، فلا بد من التعامل مع هذا “الجديد” شرطاً للخروج من “المأزق” الذي دخلت فيه المنطقة ودخل فيه لبنان. نحن الآن تحت “وصاية دولية” أو تحت “إدارة دولية” لمشكلاتنا فقدنا معها الكثير من القدرة على الاستقلال والمبادرة.
كما نحن الآن أمام فوضى عارمة في دول وكيانات ليست جاهزة أو مؤهلة لإنتاج حلول سياسية وطنية في مستوى طموحات شعوبها. انهارت المنظومة السابقة على المستوى السلطوي وانفجرت كل الموروثات والبيئات العفنة التي هي نتاج حالة الركود والاستبداد والتخلف. ما هو إيجابي يتمثل في خروج الأزمات إلى الضوء وطرح المشكلات كما هي والحراك السياسي الذي سيلد بالضرورة حيوية تتجاوز اختزال الشعوب ومصادرتها خلف ديكتاتوريات أو فئات حاكمة أو أحزاب أو ترسيمات إيديولوجية.
لكننا في لبنان أنجزنا هذا الفرض وهذه المهمة بكلفة عالية ولم يعد من حقنا أن نلتحق بأوضاع عربية وإقليمية هي في المنظور الجيوسياسي أو الاستراتيجي سائرة إلى المكان الذي نحن فيه. لا مكان الآن لمركزيات سياسية تقوم على محور حزبي أو طائفي أو عقائدي. ولا مكان لدول قائدة أو هيمنة لمحاور تحت ذرائع عقائدية أو قضايا قومية. ولا مكان لأنظمة اقتصادية مغلقة تؤدي وظائف احتكارية. ولا مكان لسياسات “مشاغبة” تقوم على التلاعب بالأمن وهي تدّعي مواجهات مع قوى عظمى لتنتهي إلى مصالحتها على مكاسب سلطوية.
وعلى فرض وجود الكثير من النيات الحسنة والأهداف النبيلة والطموحات المشروعة، فالحصيلة الإجمالية لعدة عقود من الصراع هي الفشل في تعزيز استقلال الدول، وفي تحرير إرادتها وثرواتها وتنمية مواردها، وفي حفظ استقرارها وأمنها وتماسك مكوّناتها. هذا الفشل لم يكن عرضاً أو غريباً عن أصل المشروع رؤية وبرنامجاً وأدوات. لهذا نجد أنفسنا اليوم في حال أسوأ مما كنا عليه في الماضي وفق جميع المعايير والمقاييس والمرجعيات التي تنطلق من فكرة “التقدم التاريخي”. وإذا كان للشعوب أن تعطي ثقتها أو ولاءها أو تأييدها لقيادات أو خيارات وتيارات وأفكار، فهي ملزمة بأن تأخذ بالاعتبار الإخفاق والإنجاز، وأن تقارن بين أوضاع تتحرك في وجهة لا يمكن تجاهلها. كل السياسات المعتمدة في لبنان خلال عقود هي المسؤولة عن المعطيات الراهنة. وكل الفريق السياسي المشارك في هذه السياسات هو المسؤول عن تراكم الأزمات وعن النتائج السلبية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا سيما عن تراجع عناصر “الوحدة الوطنية” أو نكسات “العيش المشترك” أو عن حالات الفرقة والانقسام والنفور المتبادل. فهل نبدأ التفكير على هذا النحو من نقد الذات أم نظل “نمضغ الليل والألمَ”؟

السابق
الأسد: الأزمة الحالية أفرزت بؤر التطرف وأسقطت الإسلام السياسي
التالي
هل يمكن ان نحارب التطرف الديني في المدارس؟