بين المقاومة ومكافحة الإرهاب

لا تطيق القضيّة المصيريّة الواحدة والوحيدة أن تجاور قضيّة أخرى تماثلها أهميّة، أو تنافسها على الأهميّة. هكذا حين تُفرض مثل هذه القضيّة على مجتمع معقّد ومتفاوت، يصير لزاماً أن يُضفى عليها شيء من القداسة التي لا تُساءل، والواحدُ دائماً مقدّس. ولا تلبث أن ترقى عمليّة كهذه إلى كيّ للوعي العامّ، بحيث يغدو التفسير لزوم ما لا يلزم إنْ لم يغدُ سبباً للشكّ والتخوين.
رأينا هذا حين كانت «مقاومة إسرائيل» هي القضيّة. فبمزارع شبعا ومن دونها، وبصلاة في القدس ومن دونها، نحن مشدودون من رقابنا إلى المقاومة. المُصرّ على تعريض القضيّة للتفسير خائن. «نحن شعب المقاومة»، «هذا قدرنا»، «نقاوم لأنّ إسرائيل لا بدّ من أن تعتدي علينا». هذه الشروح الضاربة في جوهر الأشياء كانت تخترقها، بين فينة وأخرى، حجج مستقاة من محاضر مخفر الدرك: هناك طيران إسرائيليّ في أجوائنا.
الآن، القضيّة المصيريّة الواحدة والوحيدة مكافحة الارهاب. لأجلها لا بدّ من «أمن استباقيّ»، ولا بدّ من تكييف الحياة على هذا الأساس. ذاك أنّ الإرهاب، مثل إسرائيل في السابق، إن لم نذهب إليه أتى إلينا.
مرحلة العبور من «المقاومة هي القضيّة» إلى «مكافحة الإرهاب هي القضيّة» لا تهفو عن ذكر الأصابع الإسرائيليّة والصهيونيّة في الأعمال الإرهابيّة. هكذا يبدو العبور طبيعيّاً ومنطقيّاً. إلاّ أنّ الشطارة لا تُخفي ورطات قد يكون أصغرها القبول ببيان وزاريّ لا تُذكر فيه ثلاثيّة «الشعب والجيش والمقاومة»، وقد ينجم أكبرها عن انضمام إسرائيل نفسها إلى قضيّة مكافحة الإرهاب. هنا نصير محكومين بالإقرار، وبما يتلاءم مع وحدانيّة القضيّة، بأنّ قضيّة كنستْ قضيّة أخرى.
وفي معرض رفض التفسير، يقال ما كان يقوله جورج دبليو بوش من أنّ الإرهاب إرهاب لأنّه إرهاب. مَن يبحث عن تفسير أعرض متعاطفٌ مع الإرهابيّين. وللتذكير، كان «حزب الله» آنذاك أحد الأصوات الكثيرة التي تحتجّ بتفسيرات منها السياسة الأميركيّة ومنها الفقر والعوز وسوى ذلك. أمّا الآن فصار من يقول بأسباب للإرهاب، مجرّد شامت بالضحايا. هكذا يردّ «حزب الله» في مطالبته بإعدام كلّ تفسير.
لا شكّ في أنّ التفسير بتدخّل «حزب الله» في سوريّة ناقص. فهناك إرهاب في بلدان لا يوجد فيها «حزب الله»، كما أنّ أعمالاً إرهابيّة قليلة حدثت قبل التدخّل في سوريّة، بل قبل الثورة السوريّة نفسها. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الإرهاب يبحث في كلّ مكان عن شرط محلّيّ، وغالباً ما يصبح هو نفسه ظاهرة محلّيّة متوطّنة انطلاقاً من ذاك الشرط. هنا يصعب الجدل في الدور الذي اضطلع به التدخّل في سوريّة بوصفه تتويجاً نوعيّاً لسياسة ونهج أنجبا، في ما أنجباه، إضعاف الاعتدال السنّيّ. لقد ابتدأ هذا المسار باغتيال رفيق الحريري ووصل إلى منع نجله سعد الحريري، بوصفه زعيم الغالبيّة النيابيّة، من أن يحكم. وغنيّ عن القول إنّ من يستفيد من ذلك ليسوا الأشدّ اعتدالاً في طائفة الحريريّين.
ينبغي أن نضع كلّ هذه التفاصيل وسواها جانباً وأن ننقاد من أعناقنا، وبوعيّ مكويّ، من حماسة فرانس فانون للعنف المقاوم إلى حماسة جورج دبليو بوش لمكافحة الارهاب. وهذا، مثل ذاك، ينبغي ألاّ يخالطه التفسير الذي هو من أبسط لوازم العقل والحضارة. اصطفّوا وراء القضيّة الوحيدة وإلاّ فأنتم الخونة.

السابق
طائرة استطلاع اسرائيلية نفذت طيرانا دائريا فوق رياق وبعلبك
التالي
«سورية الأسد»… كتاب صور لنصب تذكارية