الإرهاب يقتل مرتين

التطرف

لا يستطيع أحد أن يعدنا مهما كان بالقضاء على الإرهاب بأي شكل من أشكال المواجهة العسكرية والأمنية. هذه المواجهة عمرها أكثر من ثلاثة عقود تصدّرت قيادتها الولايات المتحدة الأميركية وشاركت فيها معظم دول العالم. لا نحتاج إلى التذكير بالانتشار الواسع لهذه الظاهرة وبفشل السياسات الأمنية والعسكرية في معالجتها. هناك أزمة تاريخية في المجتمعات الإسلامية هيّأت لهذه الظاهرة ما يسمّى “البيئة الحاضنة”. أزمة ثقافة سياسية سببها الأصلي الخلل العميق بين الحاكم والمحكوم، بين الثقافة الدينية التي جرى تعميمها على مدى قرن والأنظمة السياسية التي مارست السيطرة على جمهورها.
لا نحتاج إلى جهد لكي نعرف طبيعة المناهج التعليمية والتربوية والمؤسسات الثقافية التي كان مسموحاً لها بالنشاط، وكذلك الحجم الهائل للمؤسسات الدينية والجمعيات والهيئات ووسائل الدعوة، خاصة الإعلامية والفضائيات التي هيمنت على المسرح خلال هذه المرحلة. ثقافة التكفير تعاظمت حين فقدت المرجعيات “العلمائية” دورها الموجِّه والسليم، وحين صار رجال الدين يتكاثرون بصفتهم يمتهنون مهنة ذات مردود على موقعهم الاجتماعي، ويمارسون المهمة الدينية بوصفها سلطة. كانت الثقافة المدنية تتراجع وتكافحها الأنظمة السياسية بينما كانت الثقافة الدينية تحظى بكل التسهيلات والدعم والتشجيع. كانت الأنظمة ترتاح للثقافة التوكّلية والتبريرية لأوضاع سياسية واجتماعية تزداد بؤساً. وكان من المفترض أن هذه الثقافة لا تساهم في التمرد والاحتجاج والثورة ولا تشكّل “التنظيم السياسي” الذي يمكن أن يشكّل تهديداً لسلطة الحاكم أو الجماعة الحاكمة.
الأنظمة البوليسية التي صادرت الحريات وأحصت الأنفاس لم تكن غائبة عمّا يجري. تعاطت مع هذه المسألة بمزيج من الاستهانة أو بالخشية وعدم القدرة على المواجهة سياسياً وثقافياً واجتماعياً. لا نقصد أن المسألة أمنية وثقافية وحسب، بل هي نتيجة إخفاق شامل معنوي ومادي.
لا نملك إجابات سريعة ووصفات سحرية لمشكلات ليست ظرفية أو عابرة. هذا الشعور الجماعي الواسع بالإحباط لدى جمهرة المسلمين المتراكم من الخيبات والنكسات والذي عبّر عن نفسه بأشكال مختلفة من ردات الفعل لا يعالج قطعاً بالإدانة الأخلاقية وبالحجة الإيمانية المقابلة. نحن أمام نتائج لفشل سياسات تربوية ودينية واجتماعية ولتحولات ديموغرافية هائلة ولصدمات متتالية متناقضة من الحداثة.
لكن ذلك كله يلحّ على البدء في مشروع المواجهة من أولوياتها إلى مستوياتها المعقدة. المراجعة المطلوبة الآن تبدأ من الخطاب السياسي ومن الخطاب الديني لتعبر السلوكيات ووسائل العمل السياسي والاجتماعي، فضلاً عن الاستنفار الأمني والدعم الجدي لخطة مكافحة الإرهاب وكل ما يمثل تسهيلاً له، وخاصة الفوضى وتراجع هيبة الدولة والقانون.
يصعب عزل لبنان عن محيط يشهد هذا المستوى من الغليان والعنف ومن النزاعات التي تُسخَّر لها إمكانات الدول. ما يرعب في الإرهاب بأشكاله المختلفة أنه لا ينطفئ في الحفرة العميقة التي يصنعها ولا ينتهي مع الدم والدمار والخراب بل هو في مجتمعاتنا في بلاد الشام والعراق يشرخ الصورة الإنسانية ويقسم الوعي والوجدان. أخطر ما فيه أن يصبح جريمة قبلية أو طائفية أو جهوية. لا يجوز أن يصبح الإرهاب أبداً ذا قيمة سياسية أو ذا فعالية لأي هدف كان. هو قتل مجاني وعبثي وهمجي وضحاياه بالتعريف هم الأبرياء أينما وقع وأصاب.
وإذا كنا نرفض ويجب أن نرفض كل أشكال العنف والحروب الأهلية، خاصة في زمن الإمكانات الهائلة المتاحة لحل النزاعات والمشكلات بوسائل سلمية حين تكون إرادة التغيير شاملة وواعية ونظيفة، فمن باب أولى لا يمكن إضفاء أية وظيفة ولو هامشية في العمل السياسي على الإرهاب.
لا يمكن للإرهاب أن يكون جزءاً أو وسيلة من أي مشروع سياسي مهما كان تفسيرنا لمنشئه ومصدره. وهو يوظف الآن في كل البيئة العربية لشرعنة إرهاب منظّم آخر ولفرض خيارات تبدأ من تحديات الأمن لتنتهي في مصادرة الحرية على مستوى الشعوب والدول. الإرهاب هو الأداة التي تقوم على تشويه أي مسرح سياسي لكي تسهّل على اللاعبين الكبار استيعابه بحجة الأمن المحلي أو الإقليمي أو الدولي. وليس أخطر من ظاهرة “استخدام العنصر الفلسطيني” اليوم لهدفين، الأول تفجيري في الساحة اللبنانية والثاني تدميري للشعب الفلسطيني نفسه.
نعرف أننا فشلنا في معالجة القضية الفلسطينية وفي إعطاء الفلسطينيين شروطاً إنسانية وساهمنا في خلق صورة يائسة لدى بعض فئات هذا الشعب وهذه مهمة كذلك تجب معالجتها، مثلما تجب معالجة دوائر الفقر والحرمان والتهميش في الكثير من مناطق لبنان، لكنّ ثمة خطراً داهماً يستدعي خطة وطنية تحدّد مصادر التهديد من السياسة إلى الأمن وتوحيد الإرادة في مواجهتها.

السابق
الهمّ الأمني يلاحق الشباب
التالي
لكي لا يدفع الاعتدال الثمن مرتين