لم يَعُدْ فيَّ حيّاً غير القلم: قال أنسي الحاج.. ورحل

صرخ أنسي قبل موته قائلاً: "شاعر قصيدة النثر شاعرٌ حرّ. والشاعر الحرّ هو النبيّ، العرَّاف، والإله. والشاعر الحرّ مُطْلَقٌ... ولغة الشاعر الحرّ يجب أنْ تظلّ تلحقه"، والأصوبُ بظنّي، أنه كان عليه أن يقول "تلاحقه"، هو الذي لاحقته لغته الخاصة، بهمومها الكثيرة كما دائماً حالُ كل مبدع حقيقيّ / حرّ، حتى صرخ في أحد مقالاته الأخيرة: "لم يَعُدْ فيَّ حيّاً غير القلم".

أدخل الموتُ الشاعرَ “الملعون” أجواء الإغفاءة الوجوديَّة الأطول. فلقد ارتحل أنسي الحاج جسدياً إلى دنيا الإغفاءة الأبديّة المحتومة، بعدما ماهتْ المنيّةُ تمرّدها الأعظمَ مع تمرُّد روحه الشعرية الثائرة، فغاب الشاعر “المعلون” الذي لم يكن صدى صوته الشعريّ مجرّد صدًى أجوف سطحيّاً، لصوته الصارخ في البريّة، بل كان لدويّه استجاباتٌ عزَّ مثيلها. إذْ كان لأنسي الحاج الشاعر “أولادٌ” و”أحفاد”، حاولوا، وبكل أمانة وإخلاص موصوفَيْن، تَرَسُّمَ خطواته الإبداعيّة، تنفيذاً “لوصيَّته” الأساسيّة الي تصدّرت ديوانه الأول “لن”.

تلك المقدمة التي أعلنت خروجه البائن، الصارخ والصادم معاً، على التَّخشُّب اللغوي للشِّعر. فكان إعلانه هذا، أبلغ دلالةً على أنه حامل الشعلة “الملتهبة” لينير الطريق لمن سيتبعهم غاوون من نوعٍ آخر. وكان له ما أراد. فأنسي الحاج كان صاحب “البيان” الرسميّ الأول، للإعلان الواضح على ولادة “قصيدة النثر” العربية، وبأنها ابنةٌ شرعيّةٌ للإبداع العربي دون منازع، ولا ينتقص من شرعيتها شيءٌ على الإطلاق. ومعنى هذا أن هذا البيان، كان بمثابة “البلاغ رقم واحد” في الثورة الإنقلابيّة الشعريّة عربيّاً في العصر الحديث.

اقتحم أنسي الحاج آفاقاً إبداعية بكراً، فكان الرائد الاقتحاميّ في إطلاق ثورة الشعر جهرةً، هذا مع اعترافه الصريح ردّاً على سؤال وجّه له عن البادئ بكتابة “قصيدة النثر” بقوله: “أدونيس هو المنظّر الأول لقصيدة النثر في اللغة العربيّة، ومجموعة “الماغوط”، “حزن في ضوء القمر”، صدرت قبل “لن” بعامٍ كامل. لكنَّ “لن”، هي أول مجموعة ضمّتْ قصائد نثرٍ عَرَّفتْ عن نفسها، علناً، بهذا الإسم، وبشكل هجوميّ، ورافقتْها مقدّمة جاءت بمثابة بيان”. فهذه هي البداية التي كانت بمثابة الإعلان الرسميّ عن قصيدة النّثر”.

هذا الإعلان تضمَّنَ قوله: “العَالَمُ المقصود (للشاعر) هو من صُنْع الشاعر. والشاعر أعلم بأدواته، والشاعر الحقيقي لا يُفَضِّلُ الارتياح إلى أدواتٍ جاهزة وبالية، تكفيه مؤونة النّفْض والبحث والخلْق، على مشقّة ذلك. والشاعر الحقيقي، اليوم (ألاَ ينطبق هذا الكلام حرفيّاً على كل “يوم”)، لا يمكن، بحالٍ من الأحوال، أنّ يكون محافظاً، وذلك لأنَّ “في كل شاعرٍ مخترعُ لغة”.. وقصيدة النثر هي اللغة الأخيرة في سلّم طموحه، لكنَّها ليست باتّةً، سوفَ يظلّ يخترعها”، فنحن عندما نكتب إنما “نكتب لنقطع مرحلة، وما نكتبه، يُطوَى، يُحْرَقُ، فما لم نكتبه ولم نعرفه ولم نغص بَعْدُ فيه، هو الهمّ”.

وإذ يصرخ قائلاً: “شاعر قصيدة النثر شاعرٌ حرّ. والشاعر الحرّ هو النبيّ، العرَّاف، والإله. والشاعر الحرّ مُطْلَقٌ… ولغة الشاعر الحرّ يجب أنْ تظلّ تلحقه”، والأصوبُ بظنّي، أنه كان عليه أن يقول “تلاحقه”، هو الذي لاحقته لغته الخاصة، بهمومها الكثيرة كما دائماً حالُ كل مبدع حقيقيّ / حرّ، حتى صرخ في أحد مقالاته الأخيرة: “لم يَعُدْ فيَّ حيّاً غير القلم”.

السابق
رفعت عيد توقع انفجارا بالمجتمع العلوي: لا يمكن السكوت بعد اليوم
التالي
بوادر انقلاب في معادلة حزب الله: القتال مع الأسد لم تعد لنا فيه مصلحة