العلمنة والدين والدولة: قراءة في الإشكالات(1/3)

"سيطرة قطبي اللعنة والتقديس على العقل العربي الإسلامي هي السبب الرئيسي في أنّ أسئلة عصر النهضة ما زالت قائمة وما زالت هي هي، رغم مرور أكثر من قرن على طرحها.. وإني لأزعم أنّ الأمل بتجاوزها يرتبط في التحرّر من هذه القطبية الحادّة". هنا جزء أوّل من 3 مقالات عن العلمنة والدين والدولة، بقلم العلامة السيّد محمد حسن الأمين.

في بداية هذه المداخلة حول “العلمنة والدين والدولة”، أود أن أشير إلى أن هذه العناوين والموضوعات المتصلة بها، ليست جديدة على الفكر العربي الإسلامي المعاصر، وهي لم توضع قيد التداول الآن.. أي في ظل المتغيرات التي يشهد عالمنا الراهن.. ولا في ظل الصحوة الدينية، التي تشهدها هذه العناوين للتداول في الفكر الإسلامي والعربي القومي منذ القرن الماضي. أي في مرحلة ما نسميه بـ”عصر النهضة”. وهي من ضمن أسئلته الكثيرة التي انقسم حولها النهضويون والسلفيون، وقدموا إجاباتهم لها.. وجاء تقديمهم لهذه الإجابات متأثراً بعوامل وظروف متعددة، أبرزها الظروف الناشئة عن استعمار الغرب قسما كبيرا من بلاد العرب والمسلمين، ما أدّى إلى أن تتسم هذه الإجابات، بتأثيرات حادّة أملتها العوامل المذكورة وأبرز هذه التأثيرات اثنان:

1 – بروز اتجاه ينادي بالسلبية المطلقة، اتجاه كلّ ما يتّصل بالغرب بما فيه الجوانب المعرفية والجوانب المتصلة بالاجتماع السياسي، وبالدولة وبالعلمنة بوجه خاص.

2 – بروز اتجاه نقيض لهذا الاتجاه، يدعو إلى اعتبار الغرب، نموذجاً وقدوة، لا مفر من الأخذ بموجباتها، والعمل وفق النهج نفسه الذي سلكه الغرب لكي تستطيع الأمة أن تحقق ما حققه الغرب من تقدم.

واضح مدى التنافر والتناقض، بين هذين الاتجاهين، اللذين اتسمت بهما ردود الفعل النخبوية العربية الإسلامية اتجاه العلاقة مع الغرب من جهة، واتجاه المسائل والموضوعات التي تتصل بشكل أو بآخر بالفكر الغرب، خصوصا موضوع “العلمانية”. لذا كان الموقف من العلمنة، بين المشتغلين بحركة النهضة الإسلامية، يتراوح بين قطبي اللعنة والتقديس. الأمر الذي حرم الفكرين الغربي والإسلامي من تقديم قراءة موضوعية جادّة للعلمنة ولغيرها من المسائل التي كانت موضوعا للانقسام الحادّ، بين روّاد عصر النهضة، وبين التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية المشتغلة بهذه المسائل.

وإني لأزعم أنّ قطبي اللعنة والتقديس، ما يزالان مغروسين في عقولنا اتجاه العلمنة وأخواتها، من الأسئلة والمسائل الحيوية التي سبق للغرب أن أجاب عليها، مثل الحرية والديموقراطية وحقّ الاختلاف والتعدّد وحقوق الإنسان وغيرها.

وإني لأزعم أنّ سيطرة هذين القطبين: اللعنة والتقديس، على العقل العربي الإسلامي، اتجاه هذه الموضوعات، هو السبب الرئيسي في أن أسئلة عصر النهضة، ما زالت قائمة وما زالت هي هي، رغم مرور أكثر من قرن على طرحها..

وإني لأزعم أنّ الأمل بتجاوزها يرتبط في التحرّر من هذه القطبية الحادّة، أيّ في تقديم إجابات موضوعية عقلانية متحررة من هواجسنا اتجاه الغرب وخوفنا من شبح التبعية والتقليد له من جهة، متحررة من الانبهار به من جهة أخرى..

وقد آن لنا أن نتحرّر من كل ذلك، بعد مرور أكثر من قرن على صدمة العلاقة مع الغرب، وبعد مرور الزمن الكافي والهزائم الكافية، لكي نكتشف اتساع الهوة التي تفصلنا عن ركب التقدم وهي تزداد اتساعاً كلما شهد عالمنا المعاصر نقلة جديدة في أوضاعه، وها هي نقلة العولمة الراهنة، التي لا نستطيع توصيف أحوالنا تجاهها إلا من خلال مصطلح “الارتباك”.. فالحق أننا مرتبكون اتجاهها واتجاه مستحقاتها الداهمة. ولا أجد وصفا لحالتنا أبلغ من ذلك.

بعد هذه المقدمة ندخل في بحث إشكالية الدين والدولة والعلمنة،.. وها إني أتعمد أن أصف العلاقة بين الدين الإسلامي وبين الدولة والعلمنة بأنّها “علاقة إشكالية”. وذلك بالمقارنة مع العلاقة بين الدين المسيحي وبين العلمنة والدولة. حيث انتفت هذه الإشكالية وباتت محددة تماماً مساحات اختصاص كل منها. ولا حاجة بنا للعودة إلى الأحداث والملابسات والثورات، التي أدت إلى فصل الدين عن الدولة في تجربة الغرب المسيحي. فالكثيرون منا يعرفون الكثير عن ذلك ولكن الكثيرين يجهلون – بكل أسف – الطبقة المختلفة لكل من الدين المسيحي والدين الإسلامي من جهة، وطبيعة الاجتماع السياسي المتأثرة بالدين، لكل من الاجتماع المسيحي والاجتماع الإسلامي من جهة أخرى.

في الاجتماع المسيحي فإن الفصل بين الدين والدولة ساعدت عليه المسيحية بالذات، حيث المسيحية لا تتضمن – أساساً – مبادئ وشرائع للاجتماع البشري على صعيد السياسة والحقوق والمعاملات. فمملكة المسيح ليست في هذا العالم من جهة، وهي في الأساس فصلت بين ما لله وبين ما لقيصر، فجاء ادعاء الكنيسة لسلطة الحق الإلهي منافياً لمبادئ المسيحية بالذات، ونافياً لحق الاجتماع البشري في إدارة شؤونه وتقرير مصيره. لذلك فإن الثورة التي فصلت بين الكنيسة والدولة جاءت في جانب منها، تحريراً للمسيحية نفسها، لأنها أعادتها إلى نطاقها الطبيعي وتبلور مفهوم العلمنة بوصفه مفهوماً لعملية الفصل بين الدين والدولة.. ولا نريد أن ننسى – هنا – أن مفهوم العلمنة تأثر بعوامل الصراع المرير بين سلطة الكنيسة وبين العلمانيين. فبدلاً من أن تقتصر العلمنة في الغرب على مفهوم الفصل بين الدين والدولة.. تورّط بعض العلمانيين في نفي الدين بما هو دين. فقام تيار العلمنة الملحدة إلى جانب تيار العلمنة المؤمنة التي لا تنفي الدين، وإن كانت تنفي حق المؤسسة الدينية بالتدخل في شؤون الدولة.

أما في الإسلام، وفي الاجتماع الإسلامي، فإن الأمر – من وجهة نظرنا – أكثر منه تعقيداً. فالإسلام في عقيدة معتنقيه دين ودولة في آن، انطلاقاً من أن الإسلام منظومة من المبادئ والأحكام الشرعية في مجال الحقوق والواجبات الشرعية والسياسية وعلى نطاق المعاملات والعقود والعقوبات وقوانين عامة وتفصيلية، في مجال الحقوق الفردية والجماعية.. ثم إنّ نبيّ الإسلام نفسه محمداً (ص) أقام الدولة، وكان رئيساً لها وعقد التحالفات وخاض الحروب واضطلع بتنظيم المجتمع السياسي، مضافاً إلى ذلك أنّ تاريخ الاجتماع السياسي في الإسلام شهد الكثير من ثورات الإصلاح، لكنّه لم يعرف حركة في تاريخه قامت على مبدأ الفصل بين الدين والدولة أو بين الدين ونظام الاجتماع السياسي أو الحقوقي، بل كانت هذه الحركات غالباً ما تقوم على الدعوة، للعودة إلى مبادئ الإسلام وشريعته في وجه السلطة التي كانت تنحرف، عن إقامة العدل مستأثرة بالسلطة وبالمال العام، مدعية – أحياناً – أنها تحكم الناس بموجب حق إلهي أي بموجب حق لم يمنحه الإسلام أحداً من البشر.

السابق
روميو لحود يفتتح “طريق الشمس”
التالي
قيادة الجيش نعت المجند محمود عمر حمية