طموحات “المستقبل” تتجاوز معراب… الى بكفيا درْ

لو كان ما حصل مع “الكتائب” في حكومة سلام معياراً لاحتاج ابن المصيطبة الى تأليف حكومةٍ من 77 وزيراً. في الحالة الرقميّة “نقشت” مع الكتائبيين وشغلوا ما لا يمكن في حياتهم أن يشغلوه في حكومة من 24 وزيراً إلا إذا نجحوا انتخابياً في تأمين 20 نائباً بالتمام والكمال. ليس حزب الكتائب معياراً حتمًا، فهو وبفضل القواتيين غير المباشر، حصد فردياً الحصّة الأكبر بالركون الى عدد نوابه الذي لا يتجاوز الخمسة، والذي يمنحه في الحكومة “الجامعة فعلاً” في معادلات الأحجام البرلمانية والتمثيلية الشعبية وزيراً واحداً لا أكثر.

لم تسِر الأمور على الجميع كما اشتهاها الصارخون في وادي الإنصاف التوزيري على أساس التمثيل. بدا التوزيع منصفاً للتيار الوطني الحر و”المستقبل” في الدرجة الأولى وشكّل الكتائبيون وحدهم استثناءً صارخاً بحضورهم تمامًا كما رسم القواتيون استثناءً متوقعاً بغيابهم. فلمَ أسنِدت الى كتلةٍ من خمسة نواب ثلاثُ حقائب غير تفصيلية؟ وهل يمثل وزراء الكتائب حليفهم المسيحي؟ وما تداعيات الحياد القواتي على قوى 14 آذار برمّتها؟

يعرف الكتائبيون أن وزراءهم الثلاثة لم يأتوا بـ “كرم أخلاق“من حليفهم السني ولا فداء عيون الجماهير التي يمثلونها شعبياً. يعلم هؤلاء جيداً أن مثلثهم الوزاري هو مثلث الأمر الواقع الذي فرض على الحريري في غياب جعجع أن يبحث عن “ميثاقيّة” مسيحية لكتلته الحكومية لن يجدها سوى لدى حزب الكتائب الذي كان من المفترض أن يتشاطر والقوات ثلاثة وزراء أو أربعة بالأكثر. فالحريري على بيّنةٍ من حجم ما يمثّله مسيحيو 14 آذار المستقلون وما يمثله مسيحيو تياره منفصلين. هؤلاء لا يملكون من الجمل سوى شفّته والظهر المسيحي الحقيقي للمستقبل هو معراب وبكفيا. اضطر الحريري أن يفعل ما فعله، وجد ضالّته في “لهفة” آل الجميّل الى العودة الى السراي وربما منها الى القصر… اجتمع الوزراء الثلاثة بالرئيس وابنه ونواب الكتلة، التقطوا الصورة التذكاريّة ولم ينسوا قبل خروجهم منتشين “بالنصر” أن يرددوا عبارة: “نمثّل القوات”، ليتّضح أن ذاك التمثيل الذي يتحدث عنه أبناء المدرسة الكتائبيّة مجرّد فصل أخلاقيٍّ تعاطفي تعاضدي مع المسيحي المراقب من بعيد وأن على سجعان قزي وآلان حكيم ورمزي جريج أن يعوا ويصدّقوا أن القواتيين ليسوا هنا وأنهم يمثلون أنفسهم وحزبهم فعلياً وتنفيذيًا وحتى سياسيًا. ومع ذلك يشعر هؤلاء بمسؤوليّة كُبرى دفعتهم “أول دخولن” الى رفع سقف مواقفهم من البيان الوزراي وتأكيد عدم تهاونهم في المعادلة الثلاثية. وكأنهم أرادوا أن يُسمعوا “الرفقاء” القواتيين ما يحبون سماعه.

هكذا أرادها جعجع. اتخذ قراره ومضى فيه بلا تراجع. ما زال القواتيون حتى اليوم يؤمنون بأن خيارهم هو الرابح بعيداً من معمعة الحسابات. لم يمسك هؤلاء آلاتهم الحاسبة كما فعل الجميع. أو ربما فعلوا ليروا ما إذا كان في إمكانهم أن يشمتوا بالخصوم على الورق. ليس فعلاً. لم يكن ذلك همّ معراب النائية بنفسها عن الحكومة… وربما عن الحلفاء. كان همّها التفكير في هاجسين-سؤالين: هل أقطفُ هذا الموقف في الشارع المسيحي؟ هل غامرتُ بما يُسمّى 14 آذار؟ ربّما يُحسب لجعجع بقاؤه على موقفه أياً كانت الأسباب الموجبة أو القسريّة أمام سقوط تجربة حليفه السني الذي تراجع في غضون أقل من شهرٍ ثلاث مرات ولعلّ أكثرها إيلامًا لأبناء معراب يوم أطل ليؤكد أنه لن يشارك في الحكومة من دون جعجع ليفعل بعد أسابيع عكس ذلك. ولكن هل حسبها جعجع استراتيجياً بشكل جيد؟ “حتمًا فعل” على ما تؤكد مصادر قواتية لـ”صدى البلد”، مشيرةً الى أنه “في ميزان الربح والخسارة لا يمكن في أي يومٍ من الأيام اتخاذ قرار صائبٍ مئة في المئة أو خاطئ مئة في المئة. الصواب هو أن تتخذ قراراً ينسجم مع قناعاتك وقواعدك وخطابك السياسي. كقوى 14 آذار كررنا منذ سنة ونصف أننا لن نجلس مع حزب الله طالما أنه منغمسٌ في الحرب السورية وطالما أنه غير متمسّك بإعلان بعبدا وطالما أنه متمسكٌ بمعادلة الشعب-الجيش-المقاومة. اليوم باتت هناك وجهتا نظر في 14 آذار إحداهما تقول: لا ضير في التجربة. نحن كقواتيين لسنا مع هذه النظرية إذ إن كل المراحل التي مررنا بها أظهرت أنه لا يمكننا أن نستمر في التجربة. تمسكنا بموقفنا وأعتقد أننا ربحنا مصداقيتنا مع أنفسنا ومع جمهورنا”. والكتائب هل تمثلكم؟ تجيب المصادر: “نحن حزبان يتشاطران الأهداف نفسها. نعتبر أن الكتائبيين يمثلوننا بالموقف السياسي، وما أكدوه أخيراً قصدوا به التنسيق القائم بيننا في غير مناسبة”. ولكنكم التزمتم البقاء خارج الحكومة فما الحاجة الى أن يمثلكم حلفاؤكم؟ تعلّق: “ربما أتى ذلك من بابٍ أخلاقي ليقولوا لنا إننا معاً في هذا المشوار الحكومي، ولكن فعلياً وبالمعنى الحسّي للكلمة نحن غير ممثلين”.

يحرص القواتيون اليوم على “تقزيم” وقع بقائهم خارج الحكومة مقابل مشاركة الحلفاء برمّتهم وحتى المسيحيين المستقلين في 14 آذار. لا يعترف هؤلاء بفعل “التخلّي” وحتمًا لا يستسخفون عقول قواعدهم بالحديث عن “سقوط مشاركة المستقبل سهواً”. غالباً ما يجدون لما حصل مبرراتٍ قد لا يحتاجونها لأنفسهم أو لجمهورهم طالما أنهم منسجمون مع موقفٍ لم يتخلوا عنه في اللحظات الأخيرة كما فعلوا يوم التصويت على مشروع اللقاء الأرثوذكسي. هنا لا مجال للمقارنة بالنسبة اليهم، فالتلميحاتُ الى أن جعجع بارك دخول الحلفاء من دونه وبلا عتبٍ أو امتعاضٍ كثيرة. ربما يتركون الحريري لضميره: “هو الذي تراجع” يقولون في قرارات أنفسهم ومجالسهم. “لمَ سنمتعض؟ ولمَ سنشعر بسكينٍ في ظهرنا؟ نحن ننام مرتاحين لأننا لم نتراجع منذ سنةٍ ونصف عن موقفنا”. والعلاقة وردية؟ تتلقف المصادر: “ليست وردية أبداً. ولا نحاول تصويرها كذلك. لكلّ منا وجهة نظره وكلانا فعل ما أراد”. ولكن ألم يكن مفترضًا بـ”المستقبل” أن يتمسّك بحليفه كما عطّل حزب الله التأليف أخيراً تضامناً مع حليفه عون يوم رفض المداورة ونزع “الطاقة” منه؟ تختم: “سلْ المستقبل عن ذلك”.

لا يتوانى جمهور القوات شأنه شأن جمهور 8 آذار وتحديداً حزب الله عن تهوينها على نفسه. ربما سؤالٌ واحدٌ يجمعهما: “لمَ فعلها؟”. وإذا كان جمهور 8 آذار ينتظر مزيداً من التبريرات، فإن جمهور القوات ينجح في تحويل عتبه الى “نكتةٍ” بطلاها ريفي والمشنوق اللذان استحضرا على شفاه الجمهور الخصم تسمياتٍ برزت منها “الصقور”. تماماً عكس هذين الجمهورين، لا يبدو أن الجمهور الكتائبي يطلب من زعمائه أي تبريراتٍ، يغرّد دومًا في سربه ويحتفل بأيّ إنجازٍ يحققه. واقع يعكس تعطّش التجربة الكتائبيّة الى الحكم. تعطّش دفع رئيسها الى تبرير مشاركته بأهمية نقل الصراع غير الخفي مع حزب الله الى الطاولة بدلاً من محاربته في الهواء.

اذاً أراد الحريري أن يقنع نفسه والآخرين بأنه يتعامل مع قزي وحكيم وجريج على أنهم وزراء الكتائب والقوات. أراد أن يقول للجميع إن كتلة 14 آذار تمثّل الشارع المسيحي، فاكتفى لنفسه بوزيريْن سنيّين من أصل ثمانية ومنح المسيحيين ستّ حقائب لا تُعتبر حقائب الكتائبيين الثلاث منها تفصيلية البتة أمام ما حصده حزب الله مثلاً. ربما يبرهن ذلك أن حسابات القواتيين ما زالت متواضعة أمام طموحات “المستقبل” والكتائب… لهذا السبب بالذات لا يعود الطلاق مستحيلاً، عندما يجد “المستقبل” أن معراب تقف في وجه طموحاته وأن بكفيا “ماشي حالها” لأنها تجيد المسايرة ولأن إرضاءها أكثر ما يتقنه الحريري حتى من بعيد.

السابق
محاضرات عن مخاطر السرعة في النبطية
التالي
عقل فقيه: لبنان لم يقصّر بحقي