سوريّة: نواة صلبة لنظام متهالك

كما كان متوقعاً، لم يقدّم النظام السوري أدنى تنازل لتسهيل عملية جنيف. التنازل الوحيد الملغوم أتى بضغط من الروس، وبعيداً من جنيف، فسمح بإدخال القليل من المعونات الغذائية لحمص القديمة مع خروج عدد من المدنيين. وبالطبع لم يحترم شروط الصفقة فقام بتوقيف المدنيين الخارجين بعدما أطلق شبيحته النار على قافلة المساعدات. بالتزامن مع جولتي التفاوض وأثناءهما لم يتوقف طيران النظام عن القصف بالبراميل المتفجرة، ودشن مؤخراً معركة القلمون ابتداء من يبرود، بمشاركة حثيثة من الميليشيات الشيعية المتحالفة معه، وفي مقدمها «حزب الله» الذي افتتحت ماكينته الإعلامية القصف التمهيدي.
النظام يتصرف على قاعدة أنه ربح الحرب ولم يبق له سوى القليل لتصفية «القضية السورية» نهائياً، ويتصرف أيضاً على قاعدة وجود نواة صلبة له، لم تتعرض للاهتزاز أو التفكك خلال حوالى ثلاث سنوات، بينما يُظهر حال القوى المناوئة له مزيداً من التشرذم والانقسام، على خلفية انقسام أكبر للنواة الصلبة لأصدقاء سورية، والتي اختزلت مؤخراً تأييدها للشعب السوري بدعم ديبلوماسي محدود لوفد المعارضة في جنيف.
لجلب المعارضة إلى جنيف نشطت الديبلوماسية الأميركية لإقناعها وإقناع حلفائها الإقليميين بجدوى المؤتمر لجهة تفكيك النواة الصلبة للنظام، مع التعهد بتقديم الدعم الكامل للمعارضة من النواة الصلبة لأصدقاء سورية. المخطط كما جرى تسويقه هو إقناع الروس، بالتوازي مع انطلاق المفاوضات، بالتخلي عن رأس النظام وتظهير البديل المقبول. أما طهران فيمكن إقناعها بالمثل عبر صفقة كبرى لملفها النووي.
داخلياً، سربت الإدارة الأميركية خبر وصول رسائل من شخصيات في النظام تعلن رغبتها في التخلي عن الأسد وحاشيته المقربة، مع التلويح بأن مجرد انطلاق جنيف سيشجع المتململين في صفوف النظام على الانحياز لفكرة التغيير. أما الذريعة القديمة الجديدة عن حماية الأقليات فتكفل وزير الخارجية بالقول إن المجتمع الدولي سيقوم بهذه المهمة.
إذاً، وفق التصور الأميركي، وهو دقيق إلى حد كبير، ثمة ثلاث دوائر للنواة الصلبة للنظام: دائرة الحلفاء الخارجيين والنواة الأمنية ودائرة مؤيديه التي لا يغيب عنها الاصطفاف الطائفي. ولأن الغاية تفكيك النواة الصلبة، لا إسقاط النظام، سيغيب الدعم الفعلي لقوى المعارضة على الأرض، وقد يكون هذا واحداً من الشروط الروسية للموافقة على «جنيف2».
أما في الجانب الآخر فلا تتحرك الدينامية الدولية لتبشر بحدوث انفراجات. فمشروع القرار الأممي حول المساعدات الإنسانية يصطدم فوراً بالرفض الروسي وبالتهديد بالفيتو، ما يذكّر بالمهزلة الدولية نفسها القائمة على تحميل الروس وحدهم مسؤولية الفشل، وفي الوقت نفسه اعتبارهم شريكاً لا بد منه في الحل.
لا داعي للمقارنة بين النواة الصلبة للنظام ونظيرتها من أصدقاء سورية لإثبات متانة الأولى وتماسكها. لغة المصالح والوقائع هي الأجدر بالتحدث عن نفسها، فالروس حتى الآن لا يوافقون على أدنى تغيير في النظام الحالي، ولم تبلغ دعوتهم المعارضة لزيارة موسكو حداً أدنى من المجاملة لأن الوفد سمع الكلام ذاته الذي سمعه منذ سنتين. يتفق الروس مع الأميركيين في تهرب الطرفين من احتمال حدوث تغيير عميق في المنطقة، لكنْ يتميزون بأن لهم مصالح ببقاء النظام، أو أقله استمرار الوضع الحالي، لأن أي تحول ديموقراطي في سورية ينذر بالقطيعة معهم مهما كانت التعهدات التي سيحصلون عليها من الهيئة الانتقالية. ثم لا وجود لصفقة إستراتيجية كبرى مع الغرب تدفعهم إلى التضحية بنفوذهم السوري.
إيران تأمل من خلال مفاوضاتها النووية بالحصول على مكاسب ونفوذ معترف بها، ومن الصعب تصور تضحيتها بالاثنين معاً. وبصرف النظر عن تأويل التباينات ضمن النخبة الحاكمة، يبدو اعترافها بالمحرقة اليهودية رمزياً وعابراً بالقياس إلى تهديدها باستخدام «حزب الله» ضد إسرائيل إذا تعرضت لعمل عسكري. بيت القصيد هنا ليس العداء لإسرائيل بل التهديد بإشعال المنطقة ككل، ومن المعلوم أن النظام السوري حلقة مركزية في الإستراتيجية الإيرانية، ولا تكفي البلايين القليلة التي حصلت عليها إيران من أرصدتها المجمدة لتعويض ما أنفقته على النظام خلال ثلاث سنوات، أو للتعويض عن المكاسب الإستراتيجية والاقتصادية التي ستجنيها ببقائه.
المعطيات السابقة ليست سراً كي لا يتمكن النظام من استثمارها في مزيد من التماسك لنواته الداخلية. فالفيتو الروسي والدعم العسكري الروسي والإيراني هما الحصانة الفعلية لمجرمي حربه، وهما أبلغ تطميناً من حديث كيري عن حماية المجتمع الدولي للأقليات. ثم إن النظام أجاد توريط نواته الأمنية وحلقة مؤيديه بالمزيد من الدماء، بحيث ربط مصيرهم بمصيره تماماً. المخاوف الأقلوية من سقوط النظام، وهي ليست حكراً على العلويين كما يشاع، تقطع خط الرجوع عن دعمه مع كل مجزرة جديدة. وإذا كان من شخصيات راسلت الإدارة الأميركية حقاً فمن المستبعد أن تكون من النواة الأمنية للنظام. ثم إذا كانت هناك نية دولية جادة لتمثيل الموالاة خارج النواة الصلبة الحالية، كان من الأولى إشراك شخصيات منها في جنيف لنقض التمثيل الحصري للرموز الحالية.
غير أن المفارقة التي يصعب حلها هي أن النواة الصلبة الباقية للنظام هي نواة حرب، هي نواة نظام متهالك بالفعل ولا يستطيع الاستمرار بها وحدها سلماً. لذا سيكون من الوهم الظن بقدرته حتى على العودة كما كان قبل آذار (مارس) 2011. كل الانتصارات العسكرية التي يروج لها النظام، وعلى فرض استعادته السيطرة العسكرية على كل الأراضي، لن توقف عسكرته وحربه لأنه فقد خياراته الأخرى، ولأن نواته الداخلية ستنقسم بين غير مطمئن للانتصار وراغب في جني مكاسبه القصوى.
ما أثبتته عملية جنيف حتى الآن أن النواة الصلبة إن لم تُكسر فهي غير قابلة للتفكك، لندع جانباً النجاحات المحدودة لوفد المعارضة في إعطاء صورة مقبولة ومغايرة لصورة وفد النظام. فالأخير الذي ذهب إلى جنيف مرغماً ومتوجساً من حلفائه الروس في الجولة الأولى بات اليوم أكثر ثقة بهم، من دون أن نتجاهل الفتور الأميركي حيال مماطلته بتسليم السلاح الكيماوي، وثقته الأكبر بصدقية الرئيس أوباما وهو يستبعد تماماً أي خيار عسكري.

السابق
مقتدى الصدر يعتزل السياسة ويغلق مكاتب تيار الصدر
التالي
إحباط محاولة خطف ابن رجل أعمال لبناني