الحاجة إلى تعلم بعض السلوك

في 14 يناير (كانون الثاني) الماضي صرح وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون لصحيفة «يديعوت أحرونوت» اليومية قائلا: «لا يستطيع وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي جاء إلى هنا مصمما وهو ينطلق من هاجس غير مفهوم وشعور بالمسيحية، أن يدرّسني أي شيء عن الصراع مع الفلسطينيين». فحتى بالمعايير الإسرائيلية تعد تعليقات يعلون وقحة للغاية. جريمة السيد كيري هي أنه حاول الإشراف على محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي بدأت في يوليو (تموز) الماضي، واشتراط موعد نهائي بعد تسعة أشهر.

وتكشف الواقعة أيضا كثيرا من العلاقة التفاخرية الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وتشير إلى أن العلاقة من طرف واحد، فأميركا تقوم بالعمل الدبلوماسي الشاق، بينما تقصر إسرائيل دورها على الاعتراض والعويل.. مقابلة كرم العم سام بنكران الجميل والازدراء.

ظل زعماء إسرائيل يشددون دوما على الأهمية الحيوية للاعتماد على الذات عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل، لكن الحقيقة البسيطة هي أن إسرائيل لن يمكنها البقاء طويلا من دون الدعم الأميركي.. فقد بلغ مجموع الدعم الاقتصادي الأميركي لإسرائيل منذ عام 1949 نحو 118 مليار دولار، وتواصل أميركا دعم الدولة اليهودية بنحو ثلاثة مليارات دولار سنويا. وأميركا هي المورد الرئيس للسلاح إلى إسرائيل والضامن الرسمي «لتفوق إسرائيل العسكري الكمي» على جميع جيرانها من الدول العربية.

أما في المجال الدبلوماسي، فتعتمد إسرائيل على أميركا في حمايتها مما تقوم به من انتهاكات معتادة للقانون الدولي. ووصفت محكمة العدل الدولية ما يطلق عليه «الحاجز الأمني» الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية، بأنه غير شرعي. وتخالف جميع المستوطنات المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية اتفاقية جنيف الرابعة، لكن إسرائيل تواصل التوسع فيها رغم ذلك.

واستخدمت الولايات المتحدة حق الرفض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي 42 مرة منذ اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 التي أشرف عليها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر. وكان أكثر تلك الاستخدامات صدمة واستغلالا للنفوذ ما جرى في فبراير (شباط) 2011 ضد قرار بإدانة إسرائيل لتوسعها في بناء المستوطنات، الذي دعمته 14 دولة من الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي.

يفضل بعض الأميركان خاصة ممن هم من المحافظين الجدد الدعم الأقوى لإسرائيل، على أساس أن مصالح الطرفين في الشرق الأوسط تلتقي. ويمكن إقامة الحجة بأن احتلال الضفة الغربية يخدم مصالح إسرائيل الأمنية، حتى وإن نخر في أساس الديمقراطية الإسرائيلية، وحول إسرائيل إلى دولة مارقة في العالم.

ليست هناك حجة منطقية على كل حال بأن احتلال إسرائيل للضفة الغربية يخدم مصلحة أميركا الوطنية؛ بل على العكس من ذلك، وكما قال الجنرال ديفيد باتريوس للجنة الكونغرس عام 2010، فإن الاحتلال يثير الشعور العدائي ضد الأميركان على امتداد العالم الإسلامي، ويعوق تطور شراكة أميركا مع الحكومات العربية. ولذلك، فإن القرار بشأن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني مصلحة أميركية رئيسة إن لم تكن حيوية.

تقدمت أميركا بوصفها وسيطا نزيها، ولكن يُنظر إليها في كل مكان بوصفها محامي إسرائيل. وظلت «عملية السلام» التي ترعاها أميركا منذ عام 1991 لعبة تخمين: «كل العملية ولا سلام»، بينما توفر لإسرائيل ما تحتاجه من غطاء تماما لمواصلة مشروعها الاستعماري العدواني غير المشروع في الضفة الغربية.

ثم جاءت «الرباعية» التي تشمل الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في 2003 بخارطة طريق ممتازة لتأسيس دولة فلسطينية مستقلة بجانب إسرائيل بنهاية عام 2005. لكن «الرباعية» لا تستطيع العمل من دون ضغط الولايات المتحدة على إسرائيل، ويدل سجلها على أنها لا تعدو أداة أميركية ذكية لإضاعة الوقت.

يستحق كيري الإشادة على ما بذله من طاقة وما أظهره من التزام بسعيه لتحقيق السلام في الشرق الأوسط وما قام به من 11 رحلة إلى المنطقة خلال السنة الأولى من عمله، لكن مهمته للسلام محكوم عليها بالفشل منذ بدايتها.. فيعلون وحزب الليكود الموبوء بالصقور – الكارهون لكيري – ملتزمون بالإبقاء على الوضع الجيوسياسي الراهن في الضفة الغربية بأي ثمن كان تقريبا. وهدفهم الحقيقي هو إنهاء محادثات السلام ولوم الفلسطينيين.

لو كان الأمر في بلد عادي، فإن وزير الدفاع الذي يتعامل مع علاقات ثنائية مصيرية يُبعد من منصبه بالقوة، لكن إسرائيل ليست بلدا عاديا.

ويرجع السبب في عدم تخلي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن وزير دفاعه، إلى أن ما قاله يعلون هو ما يعتقده نتنياهو. ليست المشكلة الحقيقية هي سوء أخلاق يعلون، لكن المشكلة هي السياسة التي يحاول هو ونتنياهو دسها على حليفهم الأكبر؛ لمنع قيام الدولة الفلسطينية، ومواجهة إيران، وحماية احتكار إسرائيل «النووي»، والحفاظ على هيمنة إسرائيل الإقليمية عن طريق الوسائل العسكرية فقط. وهذه المشكلة تتعارض تماما مع مصالح أميركا الوطنية الحقيقية.

تمد أميركا إسرائيل بالمال والسلاح والنصح، وتأخذ إسرائيل السلاح وترفض النصح.

إن المشكلة الأساسية بالنسبة للدعم الأميركي لإسرائيل هي الطبيعة غير المشروطة. ونتيجة لذلك، فليس على إسرائيل دفع ثمن لتصرفها المنفرد في عالم متعدد العلاقات، ولا لانتهاكاتها الصارخة للقانون الدولي وحقوق الإنسان للفلسطينيين.

لا يدفع الدعم الأميركي الأعمى للدولة اليهودية قضية السلام إلى الأمام، ولن تتقدم أميركا إلى أي مكان في الشرق الأوسط، حتى تجعل تقديم المال والسلاح مشروطا بالأخلاق الحسنة، والأهم من ذلك باحترام إسرائيل لنصيحة أميركا.

* أستاذ فخري للعلاقات الدولية بجامعة أكسفورد ومؤلف كتاب «الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي»

السابق
قاووق: حكومة المصلحة الوطنية لا تكون إلا بمشاركة كل الفرقاء
التالي
حملة تشجير في فنيدق