مجانين السنة والشيعة

بدأت مراكز أبحاث ومؤسسات إعلامية دولية تصف الشرق الاوسط بانه «رجل العالم المريض»، وتتوقع تطورات أسوأ تؤدي إلى رسم خرائط جديدة جغرافية ونفسية لهذه الكتلة البشرية المتوزعة بين المحيط والخليج.

رجل العالم المريض هو نحن، من دون اسرائيل طبعا، فهي النبت الشيطاني الذي تمت زراعته قسرا في ارض اخرى وجسد مختلف، و«جهدت» دول العالم بأسره وعلى رأسها اميركا لإحراق كل أشجار هذه الارض بدل إعادة النبت الى تربته، وتغيير كل خلايا الجسد وأعصابه ليتكيف مع الجسم الغريب بدل نقله الى مختبرات اخرى… ثم «جاهدنا» نحن، لا إسرائيل ولا أميركا، بكل ما نملك من مقدرات وأرواح لإهداء العالم كل مفاتيح التغلب علينا، بل وأعفيناهم من هذه المهمة وبادرنا الى ذبح بعضنا ترجمة للعنف الكامن في موروثنا والمرتكز على تقديسنا لأصنام ننحتها كل يوم بايدينا، تارة بأشكال سياسية وطورا بأشكال دينية. ورحم الله شاعرنا الكبير عمر ابو ريشة الذي قال قبل عقود: «أمـــــتي هل لك بين الأمم… منبر للسيف أو للقلم… أمتي كم صنم مجدته… لم يكن يحمل طهر الصنم».

اليوم، هذا الرجل المريض، يتوقع له إما الرحيل مع تغييرات جذرية تنتصب فيها دويلات وإمارات على أسس مذهبية وطائفية تتقاتل لترسم بالدماء حدودها، وإما ان يتعافى بمعجزة فيداوي جراحه ويلملم أركانه. وبما أن ديننا الحنيف اعتبر العقل البشري المفروض ان يكون الأساس لعمارة الكون هو المعجزة الحقيقية، وبما أن العداء بين العرب والعقل مستفحل وجذري، ينتفي الامل بعودة قريبة للوعي ويكبر احتمال دخول الرجل المريض مرحلة الجنون الفعلي والهذيان… من كان يتخيل ان لبنانيين بعمر الورد يتركون مدارسهم ويقتلون اخوة لهم في الدين والعروبة في سورية وأحيانا بحجة الدفاع عن مقام أو قبر. من كان يتخيل يوما تنقل فيه الأقمار الاصطناعية صورا جوية لمدن وقرى في سورية أبيدت عن بكرة أبيها تمهيدا لتغييرات سكانية؟ ومن كان يتخيل أن تنتصر مقولة الفكر القمعي البعثي السابق في العراق وأكثر من مكان عربي: إما أنا الديكتاتور المطلق وإما الفوضى والانقسامات. من كان يتخيل أن يمنيا يفجر داخل مستشفى فيقتل أطفالا ومرضى وممرضات وأطباء ثم تكتفي قيادته ببيان اعتذار. من كان يتخيل هذه القنابل البشرية في مقاهي المغرب العربي والمجازر ضد بعضنا في السودان وفلسطين والصومال وليبيا… ومن كان يتخيل أن مدارسنا ومساجدنا ومخيماتنا وملاعبنا ومنازلنا ستخرج للأسف الشديد جيلا حاقدا يصطف أبناؤه في طوابير الظلام من أجل هدف واحد: قتل النفس أو قتل الغير.

والملفت في مرض المنطقة أن من يثخنون جسدها بالجراح رجال أصحاء البنية، يُعبئون الأدمغة ويغسلون الافكار ويساهمون في تفخيخ البشر بينما هم في منازلهم يستمتعون بحقوقهم الحياتية كاملة ولا يفكرون مجرد تفكير في أن يكونوا قدوة لـ«شباب الموت» أو حتى يسمحوا لأقاربهم من الدرجة الاولى أو الثانية بالمشاركة في ما يدعون اليه. وهذا الموضوع كان من اسباب الامر الملكي السعودي القاضي بمعاقبة من يغادر المملكة الى القتال في الخارج أو يحرض أو يدعم بالمال والسلاح، وهو الامر الذي سبقته دعوة الامير تركي الفيصل، الرجل الذي يعرف «مفاصل» الحركات الجهادية مفصلا مفصلا، الى خروج «مجانين الشيعة والسنة من سورية».

إذاً، نحن أمام عالم عربي مريض يمتلك «المجانين» فيه نسبة لا بأس بها من القرار. ولنعترف ان نقل المشاركة في القرار من الطابع الوطني الى الطابع المذهبي هو صناعة سياسية بامتياز ساهمت فيها كل الانظمة العربية بلا استثناء بما فيها انظمة الخليج، حتى وصلنا الى قنبلة طائفية انشطارية اخطر بكثير من قنابل اسرائيل الانشطارية… تتشظى مذهبيا بين ظهرانينا وتجبرنا إما على مواجهتها وإما على محاولات بائسة للنأي عنها، وفي الحالتين نخسر حاضرنا ونضيع وقتنا وتتسع المسافات بيننا وبين الآخرين المنهمكين في اختصار الف عام من المستقبل بينما نحن منهمكون في توسيع ألف و400 عام من الماضي.

 

من المسؤول؟ الجميع.

من بدأ؟ لا يهم.

 

المهم ان الخطوات التي انطلقت من المملكة وتصريحات مسؤوليها يجب ان تتعمم في الخليج كله والعالم العربي. يجب أن نسمع الكلام نفسه من كل الدول التي تتدخل في الدول الاخرى. لا نريد للمجانين ان يتحكموا بالمصائر بل نريد للعقلاء أن يتقدموا الصفوف قولا وفعلا. لا نريد لاحد وتحديدا في هذه المرحلة ان يملأ الفضاء الوطني بما من شأنه ان يهدد الامن والاستقرار والوحدة المجتمعية مهما غلف دعواته بلبوس شرعي أو ديني، ولا نريد لمن استعذب الحياة في الكهوف ان يوجه قنابله الفكرية والبشرية الى الحياة المدنية مهما غلف حربه بفتاوى و«رؤى». وهنا يحضرني كلام الشاعر الفلسطيني المبدع ابراهيم طوقان صاحب الرائعة الخالدة «موطني»، عندما دعا العقلاء الى تقدم الصفوف ودعا الغوغاء الى التراجع قبل ان تضيع القضية: «ما جَحَدنا أفضالكم غير أنَّـا لم تزل فـي نفوسنـا أُمنــــيَّـةْ… في يدينـا بقيَّـةٌ مـن بـلادٍ فاستريحوا كيلا تطير البقيَّـةْ».

دعوة المملكة السعودية يجب ان تتعمم كي تبقى لنا البقية. وكم هي معبرة قصيدة عبد الرحيم محمود عام 1935 (تمعنوا في التاريخ) التي ألقاها أمام المغفور له الملك سعود وكان يومها وليا للعهد يزور المسجد الأقصى وفلسطين: «يا ذا الامير امام عينك شاعر… ضمت على الشكوى المريرة اضلعه… المسجد الاقصى أجئت تزوره؟… ام جئت من قبل الضياع تودعه؟».

بين الضياع والوداع، نكتشف اننا كنا جزءا من علة «الرجل المريض»، وان لم يتسيد العقلاء واجهة المشهد فسنكون قريبا جزءا من… جنونه.

الأيام بيننا.

السابق
أم مسعود وفوائد الأعشاب البريّة
التالي
لقاء الأحزاب في صيدا