جذرية الثورة السورية

 لم تختلف الثورة السورية، في بداياتها، عن الثورات العربية التي سبقتها. لم تخترع جديداً، إلا شجاعتها القصوى… بتظاهراتها السلمية، وشعاراتها المطالبة بإسقاط النظام. ولكن المسار الذي واكبها، اتخذ بسرعة أبعاداً لا تقل عمقاً بجذريتها، ولا امتداداً، عن شعار إسقاط نظامها السياسي. لقد فككت الثورة السورية صروحاً من الثوابت والحدود والتوازنات…. الصرح تلو الآخر ينحني أمام ديناميكيتها العجيبة المعدية.

أولاً: الحدود الوطنية المعروفة، تلك التي أنشأت أوطاناً مقدسة، تلك الحدود آخذة في الإنمحاء شيئاً فشيئاً. لبنان، العراق، وبدرجة أقل تركيا. أي باستثناء الأردن، حتى الآن على الأقل، بات الخروج من هذه الحدود، من جزء لا بأس منها، أو الدخول إليها، بمثابة تجاوز خطوط، عسكرية دينية، طائفية ومذهبية. الثورة السورية دخلت هذه الدول باختراقات “سلمية” وغير سلمية، هزّت العروش الوطنية لهذه البلدان، وبعضها مثل لبنان، مهيأ تكوينيا، لهكذا “اختراقات”. ويمكن، قبل السقوط النهائي لحدود هذه الأوطان ان نتخيل شفافية الحدود اللبنانية العراقية السورية، وما يجول في مجالها من ولاآت وما يتشكل في عقول أصحابها من هويات.

            فوق ذلك، مجريات الثورة السورية أوجدت القطعة الثانية من “البَزِل” الكردي. بات يمكن إضافة كردستان سوريا إلى كردستان العراق، وبعد ذلك الإلتفات إلى كردستان تركيا، وربما كردستان إيران. وما يرعب الأتراك، بعد كردستان، أن تجد التعبيرات العلوية بالمظلومية التاريخية، صدى إيجابياً مع سياقات الثورة السورية، فتطالب هي الأخرى بدولة أو كيان أو إستقلال ذاتي… لو تطور أمر النزاع الشيعي السني العابر للحدود، أو امتدت مجالاته. ولم يكف تركيا كل ذلك. إنما اهتز تحالف حكامها، يتبادلون تهم الفساد والمحسوبية والتآمر مع الخارج. ولكن يبقى ان الشق المتعلق بالثورة السورية هو الذي عرض خاصرتها للرخاوة؛ معها بدأت تفشل سياسة “صفر المشاكل”، وتراجعت طموحاتها الإقليمية الإسلامية. وإن كان البادىء في ضرب هذه الطموحات هو سقوط “الإخوان المسلمين” في مصر.

            الثورة السورية أحيت القاعدة”، بأكثر مما فعلته الثورة الليبية أو الإنقلاب العسكري في مصر. المعركة بداخله بين الفصائل الإسلامية وقوات النظام جذبت مجاهدي الأرض كلها، العرب المسلمين والقوقازيين والأوروبيين على حد سواء. ساحات الجهاد الأخرى لا تتمتع بالجاذبية نفسها، ولا بالرمزية الجيوسياسية.  من الآن تبحث الحكومات الغربية في كيفية إستقبال “العائدين من سوريا”، بصفتهم مشاريع إرهاب متجدد. ولكن قبل هذه “العودة” المظفرة الى الديار، يقوم القاعديون الجهاديون بتوسيع نطاق عملياتهم الإنتحارية، في سوريا نفسها، وفي الدول التي استبيحت حدودها بعد الثورة، وعلى رأسها لبنان.

            الفلسطينيون لم يكونوا بمنأى عن هذا التفكيك الذي أحرزته الثورة السورية. نكبة السوريين من بينهم في اليرموك سوف تكون محطة مهمة من تاريخهم. ضياعهم في سوريا وخارجها سوف يعيد رسم ملامح هويتهم. أما “قياداتهم”، فالأولى، أي “حماس” انعطفت عن خطها التاريخي، وانسلخت عن بشار، وتخوض الآن صراعا داخليا حول التوجهات الممكنة، في ظل حصار العسكر المصري لأراضيها. فيما قيادتها الثانية تكتسب مع الأيام كثيراً من الشحوب والتعطيل.

            لكن إسرائيل بالمقابل، تلقّت هبَة تاريخية. فوق انها ترى حدود جيرانها “المستقرة” وقد انهارت وشابها الإقتتال الداخلي، وهذا ما يطمئنها ويشجعها على المغالاة بضم المزيد من الأراضي في نفس الوقت الذي تتفاوض فيه مع الفلسطينيين. مع ان من شأن هذا الإقتتال أن يقلقها… ولكن الأهم منه، هو تلك الهدية “الإستراتيجية” من جهة الحدود السورية. السلاح الكيماوي: مع نزعه انهار مبدأ “توازن الرعب”، الذي بنت عليه أنظمة البعث كل مجدها الممانع.

            تبقى إيران. وهي لم يكن لها أن تستمد قوة إلا من دورها في الثورة المضادة، من “تأثيرها” العتيد على بشار، وقيادتها للمجموعات المسلحة التابعة لها. هي القوة الخفية، غير المصاغة، التي على الرغم من أهوال اقتصادها، تستند إلى الدرع السوري الواقي، الذي يجعلها قادرة على المغامرة بـ”الإنفتاح على الغرب”، ذاك الحدث الذي وصُف بالـ”تاريخي”.

            روسيا، روسيا فلاديمير بوتين، كيف كان لها أن تعود إلى المسرح الدولي، لولا الثورة السورية؟ كيف كان لها أن تدخل في وساطة وإتفاق، هما ربما الأسرع في التاريخ المعاصر… ومع من؟ مع قادة العالم، الأميركيين. “رجل العام”، بوتين، دخل المسرح السوري من باب الحرب والسلم، فأعفى سوريا من “الضربة” الأميركية، وأخذ منها سلاحها الكيماوي. فتوِّج إمبراطوراً… روسيا والولايات المتحدة دخلتا في زمن جيوستراتيجي جديد، بفضل مجريات الثورة السورية، أو على الأقل في سياقها.

 لكن يبقى الأكثر جذرية في الثورة السورية، هو كونها الأكثر تدميرا للحجر والبشر، في الإجتثاث المتبادل. كأنه مكتوب لمسارها في النهاية أن يدمر كل شيء في طريقه، ليعود السوريون ويبنوه من جديد. كما يحصل، “نظرياً”، في الثورات.

السابق
عودة سليمان تطلق العد العكسي للتأليف
التالي
بالأرقام أصحاب الرواتب الأعلى في العالم