المقاومة والسلطة: البندقية محلّ العقل (3)

في الحلقة الثالثة من ملف "مقاوم الأمس وجندي اليوم" حوار مع المفكّر العلامة السيّد محمد حسن الأمين الذي ينتقد كيف أنّ الأنظمة العربية تستمرّ في حجّة "المقاومة" من أجل سلب الشعب حريّة قراره، حيث "البندقية حلّت محل العقل العربي وصارت هي الوسيلة والهدف".

تعتبر السلطة من المعطيات المباشرة للاجتماع العام، وهي تتسلّح بالقانون الذي يمنحها الشرعيّة ويضفي مبدأ الرضا الطوعي عليها، فيصبح بإمكانها ان تسيّر اعمال الدّولة وتحتكر العنف وتكتسب القدرة على الإكراه كونها تستمدّ قوتها من القانون.

المقاومة هي الأعمال الاحتجاجية جميعها التي تقوم بها مجموعات ترى نفسها تحت وطأة وضع لا ترضى عنه. فالشعوب تقاوم من يحتل أراضيها. وتختلف الأساليب من العصيان المدني إلى استخدام العنف المسلّح.

ولطاما نشأ تنازع في الدّول التي عانت من احتلالات بين “المقاومات” و”السلطة الشرعيّة” بعد زوال تلك الاحتلالات، اذ يشعر من قاوم انه صاحب حق في ان يحكم الدوله التي حرّرها.

 يقول المفكر الاسلامي العلامة السيد محمد حسن الأمين: “بالنسبة الى الحكام ودورهم في المقاومة، فإن ذلك لم يشفع لهم”. ويستشهد العلامة الأمين بتجارب عدّة. فبريطانيا عقب الحرب العالميّة الثانية، عراقتها في الديموقراطية جعلت الشعب ينتخب نقيضا لـ” تشرشل” الذي قاد بلاده اثناء الحرب وقاوم التهديد النازي وانتصر عليه: “انتخبوا غيره”. وفي الولايات المتحدة الأميركية التي استقلت بعد حروب ضد بريطانيا، التي حاولت اطالة مدّة استعمارها، فإنّ جورج واشنطن زعيم المقاومة الأميركية قام بجمع عناصر ميليشياته المسلحة وأوكل إليهم مهامات الأمن وحفظ النظام لفترة 6 أشهر بسبب خبرتهم الأمنية، وسرحتهم الدولة بعد تأسيس حكم مختلف، وذلك انطلاقا من أن دور المقاوم مهم ومحترم، لكنّه يجب الا يكون عائقا امام بناء الدولة: “فمنطق المقاومة والتحرير مغاير لمنطق السلطة الشرعيّة وبناء الدول”.

 وكذلك بالنسبة الى المقاومة الفرنسية أمام الاحتلال النازي، فقد جمع ديغول المقاومين وكرمهم بعد تحرير بلاده. كما ان الشعب الفرنسي الذي انتخبه رئيسا شرعيا وكافأه بوصفه بطل المقاومة، عاد وخذله بعد عقدين من الزمن، ليعتزل ديغول السياسة ويموت بعد ذلك في قريته الريفية التي اختار ان يقضي اواخر ايامه فيها”.

 ويتابع السيد الأمين: “في العالم العربي مع الأسف، يستحق السلطة القوي الذي يحمل السلاح. فكان ما يضفي الشرعية هو القوة العسكرية في الانقلابات. والأجدى لذلك أن يفكروا أن المقاومة التي حررت يجب أن تستسلم السلطة. وفي لبنان زعامات ميليشيات الحرب الأهلية رأينا ما فعلته بعد سيطرتها على مفاصل الدولة حين انتهت الحرب”.

في الجزائر ما زال تعبير “شرعية الثورة” يستخدم بدل “شرعية الشعب” وإرادته الحرّة في التعبير وفي التغيير السياسي. وهذه الشرعية باتت تشكل شرعية الحكم في الدول العربية الاستبدادية.

 ويستنتج السيد الأمين: “البندقية حلّت محل العقل العربي وأصبحت هي القيادة وتراجع دور العقل  والعمل السياسي وصارت البندقية هي الوسيلة والهدف، الأمر الذي أدى إلى إخفاقات كبيرة وفشل مستمرّ”.

 وحول المقاومة الفلسطينية يؤكد العلامة ان “قضية فلسطين لا يمكن أن تكون بمعزل عن تراجع العقل العربي وتراجع الحرية في المنطقة العربية وتراجع الأنظمة الديمقراطية وحقوق الإنسان، لأنه عند زوال هذه القيم ستصبح البندقية هي الحاكمة، وكأنني أقول إن زمن المقاومة المسلّحة انتهى بالمعنى الذي كان سابقاً وأن المقاومة الحقيقية هي في تعزيز مكانة العقل العربي ومستلزماته من حرية وغيرها وهي صادرت الحريات”. ويتابع: “علاقة الأنظمة بالمقاومة كانت علاقته جيدة في السابق لأنها كان دائماً تريد أن يكون لها حصة في المقاومة لتضفي شرعية على واقع غير شرعي”.

 واليوم إذا كنا نشعر أنه يوجد متغيرات حقيقية، فيجب أن نبحث في الجذور وعن حركة نهوض جديدة قد لا تكون فيها المقاومة بمعناها السائد هي الرائدة: “أنا لا أدعو إلى إلغاء المقاومة ولكن إلى وضع الأمور في نصابها وأن تكون البندقية في إمرة العقل وليس العقل في إمره البندقية”.

 وبرأي الأمين أنّ “المقاومة اليوم عادت كما بدأت في مرحلة المقاومة الفلسطينية. فتلك البندقية بدأت تُنشىء شرعية لأصحابها بمعزل عن إرادة الشعب، والأهداف الكبرى. فالمقاومة يجب أن تكون تحرير الأرض وتحرير الكائن الإنساني من ارتباطاته وعقله المتراجع وعدم إيمانه بقضايا العدل وحقوق الإنسان.

العالم تغير الآن وفلسطين ربما لا تتحرّر إلا في هذا التحوّل البنيوي  للمجتمع العربي: “وهذا ما يجب أن يكون مسرحا لعمل للمقاومة، دون ان يعني ذلك إلغاء المقاومة، خصوصا مقاومة الشعب الفلسطيني بالذات”.

 ويختم السيد الأمين: “الشعب الفلسطيني يخوض مجابهة مباشرة الآن، المقاومة لها دائرتها التي تعمل بها، وحتى لو انتصرت وقدسناها في دائرتها لا يحق لها أن تنتقل إلى دائرة ثانية فتكون هي المقدّس. المقاومة مهمتها التحرير، ولا يعني ذلك أنها دائماً على حق في كلّ شيء، وتحديدا في الشأن السياسي ومسائل الحكم وإدارة الدولة”.

السابق
مقاوم الامس وجندي اليوم (1): من ضحّى ومن كَسَبَ؟
التالي
حوار مع “مقاوم” بسوريا: الراتب بدل المبادىء (2)