مذكرة بكركي الوطنية: إيش بِدّا تعمل؟

الطاولة مستطيلة داخل القاعة البيضاء. اجتماع دوري، أوراق وكاميرات. بيان يدعو إلى الحياد الإيجابي، إقرار اللامركزية الإدارية الموسعة… وغيرها من الشعارات الكتائبية المعروفة. لكن هؤلاء الرجال بالأسود ليسوا أعضاء المكتب السياسي للكتائب، والقاعة ليست في البيت المركزي في الصيفي، كذلك إن صوت النائب سامي الجميّل لا يصدح في الداخل. هنا مقر البطريركية المارونية في بكركي.

البطريرك بشارة الراعي يلقي «المذكرة الوطنية» التي شغلت الإعلام طوال أسبوع، باعتبار أنها «لن تكون ظرفية، وما قبلها ليس كما بعدها». الكشف عن المذكرة خيّب بعض الآمال، وعبّر أحد المواكبين للعمل عليها عن أن «الهالة التي سبقتها أكبر من حجمها، فهي لم تأت بجديد ولم تضع تصوراً للسنوات المقبلة». فالوثيقة تضمنت في خطوطها العريضة تكراراً لما يردده السياسيون ليل نهار، عن «العيش المشترك وبسط سلطة الدولة و…».
بعدما أعلنت بكركي، منذ أسبوع، أنها ستدق الجرس، تداعت وسائل الإعلام أمس إلى الصرح. رجال أمن علّقوا: «في صحافيين أكتر من المطارين». منذ التاسعة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً، انتظر هؤلاء في الباحة الخارجية في انتظار أن يُفرّج عن المذكرة الحدث. أحاديث عن مهنية الوسائل التي يعملون فيها والوضع الإعلامي والسياسي ساعدتهم في قتل الوقت. المسؤول الإعلامي في بكركي وليد غياض يسوّق للمذكرة «الاستراتيجية التي لا يمكن أحداً من السياسيين أن يتنصل منها لأنهم جميعاً أسهموا في وضعها». الاجتماع الدوري للمطارنة عادةً ما يُقسم إلى قسمين. رفض المطارنة خلال استراحتهم الحديث، مكتفين بالقول: «لم يحن وقت المذكرة بعد».
منتصف النهار، فُتحت أبواب القاعة أمام الصحافيين. وزّع المطارنة ابتساماتهم للكاميرات قبل أن تغرق عيونهم في صفحات المذكرة. حضر أيضاً السفير السابق عبد الله بو حبيب، الأمين العام لحزب الوطنيين الأحرار الياس أبو عاصي، والأب فادي الأحمر الذي كان له إسهام في المذكرة. استهل الراعي الكلام بمقدمة برر فيها أنه «قبل ست سنوات من الاحتفال بالمئوية الأولى على إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، وعلى مشارف عهد رئاسي جديد وفي مرحلة دقيقة»، وجبت إعادة التذكير بالثوابت التي تؤمن بها بكركي. وضع البطريرك إعلان الوثيقة في سياق تاريخي مرتبط بأحداث عظيمة. لكن كلماته لم تحل دون انتقاد الوثيقة «العادية»، بحسب وصف معظم السياسيين الذين تحدّثت إليهم «الأخبار» أمس.
قسمت المذكرة إلى أربعة أقسام، لكل منها عناوين فرعية. البداية مع «الثوابت الوطنية». كرر الراعي الأحاديث اللبنانية نفسها عن العيش المشترك، وعن «مشروع حضاري التقى فيه الإسلام والمسيحية». ثم انتقل إلى الميثاق الوطني «باعتباره خلاصة تاريخ مشترك من تجربة العيش المسيحي ـــ الإسلامي». القسم الثاني خصص لعرض «الهواجس». أبرز ما كُتب هو عن «الأمن الذاتي الذي يُعلل مبرر وجوده بعجز الدولة عن الدفاع عنه، فيبيح لنفسه هذا الحق». أبرز القضايا المتصلة بهذا الهاجس «إقحام لبنان في قضايا الجوار». تتقاطع المطالبة بالحياد الإيجابي مع مطلب الكتائب. لا يكتفي بذلك، بل يريد «الحياد كما نص عليه إعلان بعبدا». خصص القسم الثالث لتحديد «أسس الانطلاق نحو المستقبل». يريد الراعي تحقيق «المصلحة الوطنية العليا» عبر حوار «شفّاف وصريح»، وتحديد الأولويات «للنهوض بلبنان»، ويقع ذلك على «عاتق رئيس الجمهورية الجديد». تأكيد الميثاق يدخل ضمن هذه الأسس. كذلك المطالبة بحق العودة للفلسطينيين و«إحلال السلام في سوريا». هنا، تهكم أحد المطارنة متمتماً: «من أين يريدنا أن نشتريه لهذا السلام؟». شدد البطريرك كذلك على صون الدستور والتقيد به عبر عدة أمور، أهمها: «حصرية القوة العسكرية في يد الشرعية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمن المهلة المحددة دستورياً». أخيراً، حدد الراعي أولويات بكركي التي تتلخص بـ«وضع قانون انتخابي نيابي جديد، إقرار اللامركزية الإدارية الموسعة، استكمال تطبيق الطائف، تأليف حكومات كفية».
تسابق الإعلاميون على مغادرة القاعة مع انتهاء الصلاة، أما الراعي فاكتفى بلملمة أوراقه رافضاً التعليق على ما أورده. الكاردينال نصر الله صفير الذي بقي متجهماً، مكتفياً باستراق النظر من تحت نظارته أحياناً، علق بلكنته الكسروانية: «ايش بِدّا تعمل المذكرة؟». المطران سمير مظلوم تسلم دفة الكلام. لم ينفِ أن معظم المطارنة لم يكن على علم بمضمون المذكرة «إلا أن ذلك لا يعني وجود خلاف حولها». المذكرة «مهمة» ويأمل منها خيراً «فمن واجب بكركي أن تدعو إلى الحوار واعتبار ما صدر عنها نقطة انطلاق جدّي للمسؤولين ليطبقوا ما يجدونه مناسباً». رغم أن الاستحقاقات السابقة برهنت أن لا أحد يأخذ بنصائح بكركي، إلا أن جنودها لن يتوقفوا، «وحتى نشكل جيشاً يفرض مقرراتنا بقوة سنبقى ملتزمين ما نقوم به». في موضوع «الأمن الذاتي» طلب مظلوم من الدولة «أن تتحمل مسؤوليتها لتنتفي أي حجة تسمح لتلك المجموعات بتبرير حمايتها لنفسها». كذلك فإنه نفى أن تكون المذكرة موجهة ضد حزب الله «هذه الرسالة لجميع اللبنانيين، ولكن الواقع يفرض علينا هذه المطالب والتوصيفات». يبدو مظلوم مصراً على تفعيل المذكرة «وسنعمل قدر الإمكان من أجل ذلك». أما المتابعة، فستكون من خلال لجنة استراتيجية، «برنامج عملها حتى الساعة لم يتضح بعد»، والسبب؟ «ضيق الوقت».

السابق
إسرائيل تستدرك الغضب الأميركي
التالي
الانتخابات الرئاسية اولاً