مقاومة الإرهاب

وصلت موجة الإرهاب إلى لبنان بصورة منتظمة. شكّلت الفوضى في سوريا البيئة الخصبة لاستقطاب الإرهاب وانتشاره، وانكشاف الأمن في لبنان عاملاً مساعداً آخر.
ترعرع الإرهاب في وسط آسيا منذ بداية الثمانينيات مع أزمة تشكّل هوية الدولة الباكستانية ومشكلاتها الاجتماعية والسياسية واستخدامها قاعدة غربية لمقاومة «السوفيات» في أفغانستان. تحوّلت باكستان إلى الدولة المنتجة لـ«طالبان» أو مدارس الإعداد والتأهيل «للجهاديين» انطلاقاً من ثقافة إسلامية أرساها أبو يعلى المودودي فبعثت فكر ابن تيمية وتلاقت مع الإسلام الحنبلي الوهابي السعودي. أخذت الحركة الجديدة من تجربة «الإخوان المسلمين» وتراثها الدولي ومشروع إحياء الخلافة، ومن تجربة السلفية الفكرية واتجاهات التكفير التي قامت عليها.
تعهّد الغرب هذه الحركات بتنوعاتها وقدّم لها كل التسهيلات لتعبر حدود الدول وتحصل على الموارد المادية والبشرية والعسكرية. ومن أفغانستان نشأت ظاهرة الأفغان العرب التي اتجهت إلى الجزائر واليمن ثم احتشدت في العراق، ثم سوريا وتتوسّع حيث الأزمات والفوضى. تنطلق هذه الحركات من أزمات المجتمعات الإسلامية وتقدّم لها جواباً واحداً هو العودة إلى مجتمع الإسلام الأول. إنها حركة مضادة لكل تاريخ تطور المسلمين، ومعادية لكل التراث الإنساني المادي والتقني والعقلي والاجتماعي. ميزتها عن الحركات الخلاصية الأخرى الموجودة لدى كل التيارات الدينية أنها لا ترتقب الخلاص من المستقبل بل من الماضي. تستخدم الإرهاب وتسعى إلى «تدمير العالم» لأنه لا يطابق تصوراتها. الإرهاب هذا ثقافة تتوسّع في المدارس الدينية التي جرى استخدامها لأغراض سياسية مختلفة من الدول، إما لاكتساب شرعية من هذا الجمهور، وإما لتحقيق نفوذ في مواجهة الآخرين. ليس جديداً القول إن الدول ذات التوجهات القومية خضعت أو تواطأت مع هذه الثقافة كذلك. لكن الأهم أن مشكلات العرب والمسلمين عموماً قد أحيلت على هذه الثقافة بدلاً من التقدم في اتجاه الثقافة الإنسانية المعاصرة. في مواجهة الإرهاب مهمات كثيرة متراكمة، عالمياً وإقليمياً. لكن ما يعنينا هنا التحديات على المستوى اللبناني. بعض هذا الإرهاب مستورد وبعضه منتج محلي. لا شك أن الإرهاب التكفيري ليس مرتبطاً بحدث سياسي معيّن. ولا يمثل أي قرار أو إجراء حماية من هذا الخطر. لكن المؤكد أنه ينتشر حيث الأزمات والفوضى ويدخل من باب الانقسام ليعطي نفسه تبريراً، أو ليستقطب التأييد. المهمة الأولى في لبنان هي في الاستنفار الوطني الشامل بالأمن وبالسياسة في مواجهته. لا يتوافر ذلك في حال بقاء الدولة ضعيفة ومؤسساتها الأمنية غير فاعلة والإرادة السياسية والوطنية مشتتة. حين نتحدث عن «بيئة حاضنة للإرهاب التكفيري» نعطي الإرهاب صفة ليست له وكأنه تيار سياسي شعبي، أو فعل لديه قبولاً في بيئة ثقافية معينة.
إذا صح ذلك فهو يستدعي معالجة لهذه «البيئة» وليس فقط تصدياً أمنياً وعسكرياً. المسألة كيف نعمل على تنقية البيئة الحاضنة على المستوى السياسي سواء كان ذلك في معالجة ثقافة التكفير أو تأويل المشكلات السياسية والاجتماعية تأويلاً دينياً ومذهبياً، أو تحويل النزاع على السلطة إلى نزاع طائفي ومذهبي. لا يحصل ذلك من طرف واحد في هذا الانقسام بل من توافق وطني على طبيعة المشكلات وكيفية حلها. والحال أن التحريض أو التوصيف وحده لا يكفي بل هو يساهم في تعميق أسباب الانقسام.
الظروف الاستثنائية التي يعيشها لبنان منذ زمن خلقت أجواء مؤاتية لكل أشكال التفلّت من سلطة القانون وشجعت على الخيارات الطائفية. لم يعرف لبنان الاستقرار منذ عشر سنوات حيث انتشرت ثقافة العنف السياسي الطائفي.
يختلف الإرهاب طبعاً عن الصراعات الأخرى ولو توسّلت العنف لكنه يجد فيها المناخ الأفعل. لا يعود الإرهاب يمثل الاعتداء الصارخ على حرية وكرامة الإنسان وعلى المجتمع كله بل يبحث عن وظيفة له بين الفرقاء المتنازعين.
الإرهاب التكفيري يستهدف بيئته الطائفية أولاً كما في معظم البلدان العربية والإسلامية، ويستهدف استقرار العالم وأمنه بشكل عام. لكنه يتظهّر أكثر حين يواجه فئات تختلف عن بيئته ويعتبرها عدواً تاريخياً قديماً لكونها تحمل هوية نزاعية معه بأي صفة كانت. الإرهاب «شر مطلق» إذا جاز التعبير لكنه ليس ظاهرة منفصلة عن مشكلات المجتمع. الإرهاب يولد في مدارس فكرية وثقافية وينتج داخلها، وينمو في رعاية جهات تمويلية ومساعدة دولية ويعمل تحت إدارتها ولأهدافها. لكنه يؤدي وظيفته هذه حيث يجد لنفسه أهدافاً تتصل بظروف نزاعية لا يجتمع الرأي حولها. يقوى الإرهاب حين يصبح جزءاً من مشهد العنف الشامل. في العراق وسوريا يختلط الإرهاب بالحرب على الإرهاب. لا زلنا في لبنان خارج هذه الصورة، ولا زالت إمكانات محاصرة الإرهاب ممكنة وعزله ومواجهته، رغم كل ما يحكى عن التباسات بينه وبين أشكال العنف الأخرى. لكن لا يجب أن نطمئن أن الإرهاب مستورد من خارج. هناك أكثر من مكوّن ثقافي واجتماعي مؤهل لإنتاج الإرهاب. الحركات الدينية المشكّلة لأغراض سياسية تبدأ بثقافة الإقصاء لتنتهي بالعنف والإرهاب.

السابق
مؤامرة على سوريا
التالي
حكومة سلام: ماء الوقت في نبيذ الشروط