الاعتدال ليس ضعفاً ولا يُردّ على التطرّف بالتطرّف

“الاعتدال” كلمة عادة ما تُستحسن في وجه الغلوّ والتطرّف. لكنها تتهَمُ في حيويتها.
أساساً كلمة “الاعتدال” بحد ذاتها تحوي نقطة قوّة ونقطة ضعف.
أمّا عن نقطة الضعف فهي حين يتبدّى “الاعتدال” بمظهر “الفاتر” بين السخونة والبرودة، و”الغامض” أو “الملتبس” بين وضوحين قصويين.
أمّا عن نقطة القوة فهي حين تعاد الكلمة إلى جذرها “عَدَلَ”، كمثل قولنا “عَدَلَ عن الطريق” أي حاد عنها، و”عدَل إليه”، أي رجعَ. هو جذر حركيّ بإمتياز، وعنه اشتقّ “العدل” وهو بحسب معاجم العرب الأساسية “ما قام في النفوس على أنّه مستقيم وهو ضد الجور”، ومن التعاريف أنّ “العدل هو الذي لم تظهر منه ريبة”، أي يرضى الناس بالإحتكام إليه ويرضون بتحكيمه في ما بينهم.
باستعادة القربى الإشتقاقية بين “الاعتدال” وبين “العدل” أو “العدالة” تعود نقطة الضعف نفسها لتصبح نقطة قوّة:
فالاعتدال هو انتصاف بين المتطرّفين، إنّما بغرض تحقيق الإستقامة وتوسّع نطاقها. يمكن طبعاً أن يكون الاعتدال توفيقياً، ووسطياً أنى دعت الحاجة، لكن يمكنه أن يكون أيضاً جذرياً، وبرنامجياً، بل هو يكتسب كل صفاته حين يكون كذلك: انتصاف بين المتطرفين وعدم وقوع في حبائل الغلو أياً كان نوعها، انما هو الاتزان من أجل اعداد العدّة لفرض معادلة الإنصاف والعدل، وهذا يعني بالدرجة الأولى لبنانياً، أن لا تستبد جماعة أهلية بأخرى، وأن لا تنكر الواحدة حق الجماعة الأخرى في الوجود الحرّ والعيش الكريم والمشاركة السياسية والإسهام في صنع الذاكرة الوطنية المشتركة، وأن لا تجنح الواحدة لانتحال صفة المتكلم بلسان الجماعة الأخرى، أو أن تهضم حق غيرها في التمايز والمشاركة بحجة أنها أعلم من الفئة الأخرى بمصلحتها.
والحال ان قسماً أساسياً من المشكلة مع “حزب الله” تكمن هنا، فهو ان كان لا ينكر التعددية اللبنانية بشكل مباشر، الا انه يتعامل مع الجماعات اللبنانية الأخرى على أنه أعرف منها بمصالحها هي، ويسعى جاهداً، ويائساً بالنتيجة، إلى فرض ارادته الانتدابية الوصائية على بقية الطوائف، مرة باسم “الوحدة الاسلامية” لفرض معادلته على السنّة، ومرة باسم “تحالف الاقليات” لفرض معادلته على المسيحيين والدروز والعلويين.
في المقابل، الاعتدال في نطاقه اللبناني لا يمكنه أن يعني أقلّ من التأسيس على الطبيعة الثنائية المسيحية – الاسلامية لهذا الكيان، وعلى كل ما من شأنه ابعاد اللبنانيين عن تكفير بعضهم بعضاً، أو “تنجيس” بعضهم بعضاً، أو ادعاء تمثيل طائفة منهم لطائفة أخرى، أو مسعى عزل كل طائفة على حدة، الأمر الذي يؤدي حينذاك إلى استبداد كل جماعة بأفرادها. الاعتدال هو الموازنة بين حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، وفيما بين الجماعات، وهو الكيانية الميثاقية المتصالحة تماماً مع تعدديتها الذاتية وتمايزها المنتمي إلى محيطها، والتي تتفاعل فيه تحديداً مع كل من يقدّر لهذا التمايز اللبنانيّ حقّ قدره سياسياً وثقافياً واقتصادياً في المحيط العربي، اذ ليس الفيصل هنا ان يبحث أهل الاعتدال اللبناني عمّن يماثلهم في أفكارهم ومعاشهم من ضمن هذا المحيط، بل عمّن تنسجم مصلحته ومصلحتهم في الحفاظ على هذا الكيان – الرئة، الذي ان كان يلزم الاحتراس من النزعات الشوفينية التي تعظّم دوره فوق المعقول، إلا أنه ينبغي اطلاق سراح الاعتزاز الجميل بخواصه ومزاياه، وبصلته الحميمة، مع “حرّية” بعلية، جردية، قدر ما هي متوسّطية، عملية.
“الاعتدال” كلمة حيوية يمكن أن تتّسع لمنظومة أفكار وحساسيّات وتجارب ومبادرات تتمركز حول مفهوم “العدالة”. هذا يعني لبنانياً، أنّ “الاعتدال” هو نقيض ذهنيات “الإستقواء” و”التسلّط” ومشاريع “الهيمنة” الفئوية، مثلما أنّه إظهار لما في هذه الذهنيات والمشاريع من حياد عن جادة السوية، واندفاع نحو المغامرات اللامحسوبة، التي ترتد في النهاية سلباً على كل الوطن، لكنّها أكثر ما ترتد فعلى الفرقة المغامِرة نفسها، وعلى الفئة التي نشأت ضمنها، وتسيّدت عليها، وقصّت أجنحة المناوئين لها فيها، لتحاول من بعد ذلك الطيران بجموح، وبلا أجنحة كافية، فوق بقية المجموعات، فتطير بعض الشيء ثم تهوي وتقع.
والاعتدال لبنانياً هو من زاوية معيّنة فاتحة قراءة نقدية للتاريخ اللبناني منذ قيام هذا الكيان وإلى اليوم. فنحن أمام كيان يحوي مفارقة كبرى. فأي استيعاب لمعطياته التعدّدية الدينية أو المناطقية أو لموقعه الجغرافيّ، لن يطالعنا الا بنتيجة واحدة: هذا البلد لا يحكم بسيادة منطقة فيه على أخرى، وطائفة منه على أخرى، بل أنّ مشاريع من هذا القبيل لم تقمْ إلا بسلب عموم البلد سيادته، بل تهميش منسوب تقرير اللبنانيين لشؤونهم أكثر فأكثر.
في الوقت نفسه، فإنّ هذا البلد لم تهدأ فيه النزعات المتطرّفة والمصابة بجنون العظمة منذ العقود الأولى لتأسيسه. فهذا يكابر على الجوار والمحيط، وذاك يكابر على الداخل نفسه. هذا يتأثّر بهذه المنظومة التوتاليتارية أو تلك، وذاك يجحد بـ”الديموقراطية الطائفية” اذ يقارنها، خبط لصق، بالديموقراطيات الليبرالية الغربية، بالقفز عن كل سياق تاريخي وحضاري، فيجحد بما حقّقه اللبنانيّون من تجربة اختلاط وتخليط وحرّيات حقّها.
هي مفارقة كبرى. الكلّ في ساعة روية سيقول لك أن هذا البلد لا يحكم بالإكراه والغلوّ والتطرّف والإستقواء والقهر والكيد والكراهية، ولا بمغامرة لا تتناسب مع حجمه، ولا بجحود ينكر من الأصل حيوية البلد ودوره والآفاق المتاحة أمامه. مع ذلك، لم تتوقف التناقضات الداخلية، معطوفة على التبدّلات الإقليميّة، من افراز مشاريع تطرّف واستقواء، كما لم تتوقف المغامرات غير المحسوبة بل زادت، ولم يتوقف الجحود بلبنان والحطّ من قدره ومن شأن بنيه والتراث التكويني لهويته الوطنية بل زاد.
التطرّف الجامع
واليوم، فما نراه ان كلّ ما زاد اجتمع: المنظومة نفسها التي تسمّي نفسها أو نسمّيها ممانعة، والتي يقودها داخلياً “حزب الله” وأشياع النظام السوري من حوله، إنّما تجتمع فيها كل نقائض الاعتدال اللبناني دفعة واحدة: هي أولاً تمضي في مشروعها الفئوي التغلّبي على اللبنانيين الآخرين، بشكل لا يقارن بأي مشروع تغلّبي سابق، وهي ثانياً تمضي في انعزالها الداخلي، لإنشاء مجتمع منفصل، ومتغلّب بانفصاله، عن سائر المجتمع اللبناني. وهو مجتمع منفصل، بأيديولوجيا تعبوية خلاصية متطرّفة، وبما يؤدي إلى افراز مشاريع “مجتمعات مقفلة” أخرى، بارتدادات غريزية إلى “سياسات الهوية الأولى” وإلى التسابق على الغلوّ، وإلى فرز الناس بين “أشرف الناس” ومن دونهم منزلة، فيردّ عليهم بقلب المعادلة نفسها رأساً على عقب من طرف الفئة الأخرى، وهكذا.
وثالثاً هو نفسه المشروع المغامر بما لا طاقة للبلد الصغير، وللتعدّدية الكبيرة فيه، على احتماله. فزمن تأسيس امبراطورية عالمية انطلاقاً من قبيلة واحدة قد ولّى منذ قرون بعيدة. الا أنّ “حزب الله” يتصرّف كمغامر امبراطوريّ. خلية في مصر، وميليشيا يدرّبها في شمال اليمن، وعلاقة لوجستية بينه وبين “تنظيم القاعدة” في العراق، وعملية تفجير في بلغاريا، تذكّر بغزوة سابقة في بيونس ايرس الأرجنتينية. لكن كل ذلك لا يقارن بالمغامرة المذهبية الدامية الكبرى التي يتورّط بها الحزب ويورّط فيها شبابه وناسه واللبنانيين جميعاً في سوريا، ولا يقلّل من فداحة الأمر، بل كارثيته، وكابوسيته، رهان “حزب الله” فيه على المتطرّفين من الجهة المقابلة. فالتطرّف المذهبي المضاد لن يجعل منه فئة اعتدال، ولم يظهره إلى الحين غير فئة ماضية باندفاع شديد إلى تزخيم وتأجيج الفتنة .. هذه الفتنة التي تبلغ الذروة عندما يتوجّه طرف فيها لمن يخالفه بأنّ “الفتنة هي الآخر”، وعندما يعرّف نفسه بـ”أني أنا المقدّس” أمّا “أنت فتكفيري”. هل يقاتل “حزب الله” التكفيريين في سوريا، أو يقاتل من يحسبهم كفاراً؟ احترنا!
ورابعاً، فإن هذا المشروع نفسه، الفئوي والمغامر، يتطرّف أيضاً لجهة جحوده بالكيانية اللبنانية، ويعامل البلد كما لو أنه بلد أجنبي بالنسبة إليه، وبدلاً من أن يحاول إغناء الوطنية اللبنانية المراكمة طيلة القرن الماضي فهو يسعى إلى ابطالها بالمطلق، في الوقت نفسه الذي يوزّع تهم العمالة والتخوين هنا وهناك، بشكل اعتباطي ومبتذل يتبدّل حسب خارطة تحالفاته، وتبعاً للتقية السياسية حيثما دعت الحاجة. هذا في حين يضرب المشروع نفسه معيار الوطنية ويعرف عن نفسه بصفة الطليعة التي تأخذ على عاتقها “أمّة رسالية”، وهذه في عرف منظومة الممانعة تبقى “أمة مبهمة”، ساعة تتلبّس “العروبة” وساعة تتطرّف في “الشعوبية”، وساعة ترفع راية “الاسلام” وساعة تعيد كل تاريخنا الحالي إلى واحدة من ترجيعات حرب الجمل وصفّين.
التطرّف العاجز
وفي وجه هذا التطرّف الجامع لشرائطه، ككونه فئوياً ومغامراً وعابراً للحدود ومتماثلاً مع نظام حاكم في دولة أجنبية وجاحداً بالكيانية والميثاقية وانتدابياً هيمنياً في علاقته مع مكونات المجتمع اللبناني، وايديولوجياً شمولياً لجهة التعبئة والعقيدة، يبرز التحدي بأن لا يكون الرد على التطرّف بالتطرّف. ففي مقابل جحود “حزب الله” بالوطنية اللبنانية، بالحريات العامة والخاصة، بالسلام كقيمة أساسية، بالتسامح والتنوير والاصلاح الديني، بالتراكم الثقافي والتعددية بكافة مندرجاتها، لا ينفع التطرّف المقابل، فهذا قد يزيّن لنفسه لبرهة أنّ الذئبية لا يردّ عليها الا بالذئبية، وان الاعتدال ضعف، وهذا يستند أساساً إلى كون الاعتدال اللبناني لم يستطع أن يثبت نفسه ويبلور طرحه ويجسّد برنامجه بالشكل الكافي بعد.
الاعتدال “حلم بالحُلم” بين اللبنانيين، بالرويّة والتأنّي. التفاتة إلى تعدّدية الأبعاد والمستويات في الواقع اللبنانيّ وعند استرجاع المراحل الماضية. هكذا، أقلّه، يفترض به أن يكون. لا يكون الاعتدال بتوهّم ان كل التاريخ اللبناني الماضي كان تاريخ نزعات تآخٍ وتسامح وتوازن واتزان واعتدال، ولا بتوهّم انّ كل الذي جرى هو تعاقب نزعات متطرّفة وذئبية، تنهش الواحدة منها لحم الأخرى، وتفرض لحظة غلبتها ثم يأتي من يخلعها. لا هذا الوهم ولا ذاك. فهذا البلد فيه من التناقضات ما جعل توالي مشاريع الاستقواء الفئوي يتواجه، وأحياناً كثيرة يتعايش، مع أشكال اعتدال متفاوتة في الوعي والخبرة والحظ، ويندرج ضمن ذلك كل مسعى كي يكون لبنان بلداً مثل سواه من البلدان المتصالحة مع كيانها ووجودها، والمشخّصة بشكل واقعيّ لأدوارها وامكاناتها، ومتطلّعة بشكل مدروس نحو الآفاق والطموحات التي من دونها لا يمكن أن ينال أي شعب في هذه الدنيا حقّه من “السعادة”، علماً أنّ “السعادة”، والتي كان يعبّر عنها ذات يوم ذلك الشعار التقدميّ جدّاً، والراهني تماماً “وطن حرّ وشعب سعيد”، انما من شروطها، تأمين مناخ من السويّة، ومن المصارحة والشفافية والهدوء، يستعيد فيها الخطاب السياسي بلاغته من بعد أن استبدّ به الابتذال والاسفاف، ويروّج فيه مجدّداً الخطاب الاقتصادي الاجتماعي الذي تعبّر فيه كل فئة عن موقعها ومصالحها ومخاوفها، من دون غوغائية ولا رُهاب، كما أنّه الإصلاح المطلوب في الخطاب الثقافيّ، ما يستدعيّ بالدرجة الأولى، ملاحظة الركود الذي وقعنا فيه.
منهاج تغيير لا محافظة
الاعتدال كي يكون اعتدالاً بحق يلزم أن يكون تغييرياً، ويمكنه حتى أن يكون جذرياً سواء في تشخيصه للمشكلات أو في اجتراحه للحلول، انما بشروط ثلاثة:
الأول أن النضال التغييري المعتدل ينبغي ان لا يلبس أي معركة كانت، سواء سياسية أو اجتماعية أو ثقافية لبوس ثنائية “الخير المحض في مواجهة الشرّ المحض”. فحتى عندما يكون الخصم شريراً، ينكّل بالناس ويهدر طاقات المحسوبين عليه، بلا طائل، وجب عدم الوقوع في ما وقع فيه من شطط، كونه تصوّر نفسه على أنه الخير في ذاته، والحقّ المجسّد، والشرف الأعلى، فكان أن ظلم الآخرين مرة بمظلوميته، ومرة بانتصاريته، وما فعل في نهاية الأمر سوى أنه ظلم نفسه.
في هذا المجال بالتحديد ينبغي أن يعي ذلك اللبنانيّون الذين يواجهون اليوم تطرّف “حزب الله” بالدرجة الأولى، لكن أيضاً كل تطرّف آخر يناوئ تقاليدهم المتسامحة والشغفة بالحياة ومتعها وحرّياتها، وخلطتهم الجبلية – المتوسّطية، بحلوها ومرّها، وبكثرة المبالغات التي قد يفطر الناس هنا عليها. فهم اذا كانوا يواجهون هذا الحزب أو غيره من المتطرّفين، فليس لاستبدال تطرّف بآخر، وليس لادعاء تمثيل “الخير المطلق” و”الحق المطلق” في مواجهته، وانما من أجل بلورة المنظومة التي يسمح الارتكاز والاحتكام اليها بأن يتوقف كل الفرقاء عن الشعور بالغبن والحرمان والاستبعاد والمظلومية في وقت واحد، وهذه مفارقة مضحكة مبكية في لبنان، لكنها تكشف عن مشكلة عميقة.
والشرط الثاني للتغيير المعتدل أنّه ينطلق من معطيات الواقع ولا يكابر عليها، ولا يغامر في تعنيف هذا الواقع سواء بالتعامي الكلامي عنه، أو بالإجهاد الارادوي له. فأساس الاعتدال من الناحية الفلسفية، هو التنبه إلى ان “الخلق من عدم” ليس من صلاحيات الإنسان، بل الإله الخالق. وهكذا، فالاعتدال وان كان يتيح كفكرة، بل يحثّ على قفزات نوعية في اتجاه الاصلاح السياسي للنظام اللبناني، فإنه لا يمكن أن يفعل ذلك الا في ضوء الانطلاق من المحقّق، والمراكَم. ليس كل يوم يمكن انتاج نقطة ميثاقية اسلامية – مسيحية، وبالتالي ينبغي الانطلاق مما تحقّق في هذا المجال، حيث أنّ الحرب اللبنانية انتهت بميثاق تكمن القوة فيه بأنه نظر إلى هذا الكيان على أنه كيان اسلامي – مسيحي بامتياز، وجعل لذلك مدخلاً مهماً هو المناصفة، وكان أن عاد الارشاد الرسولي ليرفد هذه المعادلة بالقراءة المسيحية لهذه الميثاقية الاسلامية – المسيحية المنبعثة بعد الحرب، والتي بقيت تقضّ مضاجع نظام الوصاية السورية على لبنان إلى أن أجبرته على الجلاء الذي حاول عبثاً استباقه أو محاصرته لأجل الغاء مفاعيله، من طريق الاغتيالات المتسلسلة.
والشرط الثالث أنّ برامج المعتدلين التغييرية لا يمكن أن تكون مقفلة، بل تفترض المراجعة عتبة عتبة، ولا يمكن أن تجيب عن كل الأسئلة دفعة واحدة، ولا هي تعد الناس بالجنّة على الأرض، انّما تستعيد هذه البرامج، الهدف الذي حدّده عبقري علم السياسة الفرنسية في القرن التاسع عشر الكسي توكفيل بأنه ابتغاء تحسين مصالح وشروط عيش العدد الأكبر من الناس عند كل منعطف. وهذا ينبغي أن يكون مدخلاً على سبيل المثال، لا الحصر، لتدشين ورش تفكير حقيقية تعيد تقويم كومة الأدبيات السياسية الطموحة في العقدين الماضيين والتي تمحورت كلّها حول موضوع “بناء الدولة” أو “العبور اليها” في لبنان. لماذا لم يترافق هذا التراكم في الأدبيات وفي الانتظارات الا مع تراكم في أسباب وأشكال ومناحي تعطيل المؤسسات وتفريغها من محتواها، والاستهانة بالقوانين، واحلال “شريعة الغاب”، بل “شريعة اصبع التهديد”؟ هل فقط لأنّ “حزب الله” شكّل رأس حربة المشروع “المقاوم في الدولة” في لبنان، أو لأن الفكرة عن الدولة في معشر اللبنانيين الاستقلاليين والأحرار بقيت هلاميّة، ومجرّدة، ومثاليّة، ومنفصلة عن تاريخ الدولة الموجودة هنا وجوداً ناقصاً، بحيث سهّل ذلك على هذا الحزب الفئوي – الشموليّ المسلّح الانقضاض على مؤسسات وأجهزة وعلى دستور وقوانين الدولة الموجودة بالفعل، وان كان وجودها ناقصاً وجزئياً؟
لأجل ذلك، ومثلما أن في الاعتدال السياسي اللبناني عناصر محافظة لا مفرّ منها، ومنها الالتقاء مع عنصر أساسي في التفكير السياسي المحافظ – بالمعنى الغربي لكلمة محافظ – وهو ان المؤسسات السياسية ان فرط عقدها لا يمكن تأمين بديل عنها بشكل إرادوي وسريع، وبالتالي لا بدّ من صدّ كل تفريغ للمؤسسات وكل تعطيل، ولا بدّ من الهزء بكل دعوة إلى “التأسيس من الصفر”، فلا تأسيس الا على تراكم، والا كان التأسيس مغامرة، يدفع بها من يمتلك الآن سبب القوة المسلحة وقد لا يمتلكها غداً، فترتد المغامرة عليه وعلى الدائرة التي ينبثق منها ويدّعي تجسيده لمصالحها وطموحاتها.
الاعتدال القديم والاعتدال الجديد
قبل الربيع العربي لعام 2011، كان “الاعتدال” اسم مشترك لمجموعة من العواصم الاقليمية المواجهة لمنظومة الممانعة التي تقودها ايران، والحركات الراديكالية الدائرة في فلكها، والنظام السوري الذي بدأ ندّاً في تحالفه معها وانتهى تابعاً لها، والغلبة الفئوية التي جاءت بعد الاحتلال الأميركي تستبدل الغلبة الفئوية التي كانت قائمة في ظل “البعث”، وعموم دعايات المزايدة ضد منطق التسوية في الصراع العربي – الاسرائيلي.
وفي لبنان، شكّلت “قوى 14 آذار” حلقة متميزة من هذا “الاعتدال العربي” وقتذاك، كونها كانت تمثّل ائتلافاً تعددياً يدافع عن الحدّ الأدنى من الديموقراطية اللبنانية في مواجهة الحد الأقصى من العدوان عليها من جانب “حزب الله” وحلفائه. التوفيق بين الطبيعتين “الديموقراطية” و”المعتدلة عربياً” للحركة الاستقلالية اللبنانية لم يكن بالأمر السهل. الاعتدال كان يفتقد ربيعه.
لكن الربيع العربي الذي جاء يزلزل الاقليم، ويكشف تصدّع المجتمعات في الأنظمة المنهارة، جاء ليخالف الصورة الوردية المشكّلة عنه في عامه الأول. فالانتقال إلى التعددية الدستورية، وإلى التداول السلمي على السلطة، لم يفرض نفسه الا بأشكال مراوغة، وهشّة، سرعان ما تنقلب إلى نقيضها. وهذا لا يقلّل حجّة الدستوريين – التعدّديين في لبنان والمنطقة، بالعكس تماماً، لكنه لا يعني أن الواقع يسير وفقاً لمشتهاهم، ما يدفعهم من ثمّ إلى وجوب الاعتدال هنا أيضاً، وعلى قاعدة نبذ تصوّرين: الصورة الوردية للربيع العربي، المتفائلة فوق اللزوم، والصورة الكابوسية عنه، المسخّرة عن قصد أو عن غير قصد لخدمة المقاومة الاستبدادية لهذا الربيع، وهي مقاومة عنوانها الأبرز اليوم نظام المجازر اليومية في سوريا.
طبعاً، ينبغي أن يبقى المعتدلون متمسكين بالتفاؤل، الا أنه التفاؤل الواعي، النقدي، المطمئن إلى ان الأمور لا يمكن ان ترجع بكليتها إلى الوراء، وانّ الشعوب التي خرجت تنادي بالحرية لن تسمح بأن تسلب ما حققته بهذه البساطة، لكنه التفاؤل الذي ينبغي ان يظلّ قلقاً، طالما ان مسيرة تكريس انتفاضات الحرية في نظم سياسية تعددية دستورية وفي سياسات اقتصادية واجتماعية تعالج الصدع في هذا المجتمع أو ذاك، ما زالت مسيرة لم تبدأ بعد، والاعتدال العربي الجديد يكون باطلاق هذه المسيرة ويطرح نفسه كسلسلة علاقات متوازنة، بين الدين والدولة، والمدينة والريف، والأفراد والجماعات، والمصالح الوطنية والقضايا القومية.
في مرحلة انكفاء المستعمرين، لم تتمكن النخب التقليدية من الحفاظ مطوّلاً على الهامش الليبراليّ والنكهة الكوزموبوليتية التي كانت تطبع المدن الرئيسية في المنطقة قبل عصر الانقلابات العسكرية، وهو ما يعود بشكل أساسي إلى عدم قدرة هذه النخب التقليدية على تمثيل سياسات تعمل على النهوض بحال العدد الأكبر من السكان، وبالذات أبناء الأرياف المختلفة. صعود العسكر، وفي مقابلهم الحركات الاسلامية، كان في جزء أساسي منه بسبب من ذلك. والحال أننا اليوم أمام مشكلة شبيهة نوعاً ما، طالما أن النخب الليبرالية التي أفرزتها العقود الأخيرة وبرزت في موجات الربيع العربي الأولى تبقى غير قادرة على الشخوص إلى الهدف الرئيسي لأي سياسة ديموقراطية حقيقية: تحسين مصالح وأرزاق وأنماط حياة العدد الأكبر من السكان بشكل متدرّج وتراكمي.
بسبب من تأخر انبثاق مناخ اعتدالي دستوري تعددي شعبي جديد في كل بلد عربي اثر موجات الربيع الأولى، كان أن أمسكت ثنائية “العسكر والاسلاميين” مجدداً بالرقاب، فيما غرقت الثقافة السياسية بين خيارين لا يبنى عليهما: شعبوية غوغائية توهم نفسها بأنّ “الجماهير هي الحل ليل نهار”، ونخبوية منعزلة وغير مستندة إلى قاعدة اجتماعية. الحركات الاسلامية وصلت من طريق الصناديق إلى سلطة – لم يكن قد تخلى العسكر عن عمقها – أظهرت كما تدلّ التجربة المصرية تحديداً زيف وعودها بالتحول إلى حركات ديموقراطية محافظة، ومعتدلة في انتهاجها لمنطق التداول السلمي على السلطة، فكانت أن عبّدت لنفسها طريق فشلها السريع والذريع ومكّنت أخصامها من خلعها، خصوصاً حين حاولت استخدام جهاز دولة ليست منه وليس منها ضد أخصامها.
الاعتدال الجديد الذي تنبغي المبادرة نحو اطلاق فكرته والجمع بين حساسياته المختلفة على امتداد الاقليم ينبغي أن يقرأ جيداً في هذه التجربة، مثلما ينبغي عليه ان يقرأ جيداً في “الاعتدال القديم” الذي رفعت لواءه يوماً الأنظمة التي سقطت بفعل الربيع.
كذلك الأمر، فالاعتدال الحقيقي لا يعني ابداً التطرف في مواجهة الحركات الاسلامية، ولا الانسياب في الموجة الشعبوية المقابلة لها. الاعتدال قدر ما يستلزم نقداً جذرياً لوقائع عجز الحركات الاسلامية، لا سيما المتحدرة من المدرسة الاخوانية، ونكوصها عن انتاج اعتدالها الذي وعدتنا به هي قبل سواها، فهو يستلزم نقداً جذرياً للنزعات الاستئصالية واللائكية المغالية، ولكل النزعات الشعبوية والبونابرتية، وكل من يدٌعي امتلاكه لشرعيات تامة، وحلول سحرية. ما نحتاجه في كل بلد هو النظرة العادلة إلى مكوّناته، واقرارها على ما هي عليه، ووصفها بالشكل الملموس، من دون نظرة تحصر نفسها في المدينة دون الريف، وفي القسم المتغرب ثقافياً من المجتمع دون القسم التقليدي او الاحيائي دينياً واجتماعياً أو العكس، ولا تكابر على التعددية سواء كانت لسانية أو مناطقية او دينية او مذهبية، وتنصف الجماعات كما الأفراد، ولا تغفل راهنية النضال من أجل تحقيق السيادة الوطنية ليس فقط سياسياً بل أيضاً اقتصادياً وحضارياً.
في الأمر أفق طوباوي خلاصي بلا شك. لكن بمجرد ان يبدر هذا الافق الطوباوي الخلاصي من الجرأة على تسمية التعددية الموجودة عينياً والواقعية بأسمائها وكما هي تُفصح عن نفسها، وعلى عدم استبعاد فئة لأي عذر أو ذريعة كانت، فان الاعتدال يصير بمثابة الفكرة المحرّضة على تحويل مثالات العدالة إلى برامج سياسية، جذرية ومتدرّجة في آن: جذرية ليس لأنها تدعي امتلاك الحقيقة او امتلاك الحل، بل لأنها تقرّر بأن الحقيقة هي حقيقتنا سوية، والحل لا يفرضه فريق على آخر، بل يصنعه فريقان عندما يتفقان على الاهتداء إلى ثالث يحكم بينهما، وهو القانون، وعلى رأسه قانون القوانين ورأس هرمها: الدستور.
منذ 1876 عندما أعلن الدستور العثماني، وتشكّل “مجلس المبعوثان”، كنتيجة لتراكم الاصلاحات أو “التنظيمات” العثمانية وإلى اليوم، لا تزال الفكرة الدستورية تناضل في مواجهة نفاتها، والمتحايلين عليها في هذه المنطقة. المعتدلون هم الدستوريون، أو اذا شئنا استعادة تعابير الثورة الايرانية لعام 1905 هم “المشروطة” في مواجهة “المستبدة”. اليوم أيضاً هذا هو التحدي: الصراع بين أنصار وأعداء “التنظيمات” في الفترة العثمانية المتأخرة هو صراع الراهن العربي بين دستوريين – تعدديين يعرّفون اعتدالهم اذاك بالايجاب، وبين متطرفين ليس لهم أي ايجاب يعرّف عنهم لأنهم يتشاركون، من أي خلفية أتوا، في النزوع إلى العدم. الاعتدال وجود.

السابق
انفجار قنبلة في مكب للنفايات في منطقة الطيونة ببيروت
التالي
من هي ضاحية بيروت الجنوبية وشو تاريخها؟ (2)